النملة.. ودروس إدارية عظيمة

 

إن وقفة مع دروس عظيمة في الإدارة من نملة, ربما تكون مستغربة من الكثيرين أو البعض، فكيف يمكن للإنسان بكل ما وهبه الله من علموعقل وحضارة أن يتعلم من نملة دروس؟! وأي دروس؟! إنها توصف بأنها دروسعظيمة, وفي الإدارة!!
تلك الحشرة التي قد لا ينظر إليها الإنسان إلا على أنها مصدر للقلق والأذى والإزعاج.. نتعلم منها ما لا نتعلمه من البشر!!
نعم إنها دروس عظيمة من نملة.. نملة نطقت وتصرفت بمنطق العقل ومن منطلق الحكمة.. إنها نملةسليمان عليه السلام التي شاء الله سبحانه وتعالى أن يعرفنا منطقها وحكمتها، من سليمان عليه السلام نفسه، الذي علمه الله عز وجل لغة الطير والحيوان.
ويكفي أن نعلم بأن الله سبحانه وتعالى قد سمى سورة كاملة من سورالقرآن، آياتها ثلاث وتسعون آية، بسورة النمل, رغم أن ذكر اسم النمل لم يرد إلا فيجزء من آية وحدة من عدد هذه الآيات..!!
فهل يحتاج الأمر منا وقفة ولو قصيرة أمام هذه الكلمات التي وردت في القرآن، لنتعلم منها، ونأخذ الدروس والعبر في الإدارة؟!
أعتقد أن الأمر يستحق، بل ويستحق وقفات وليس وقفة واحدة.. وهيا بنا نعيش مع نملة, تعلمنا دروسًا عظيمة في الإدارة..
قالت نملة:
بداية وقبل البدء في سرد الدروس العظيمة, علينا أن نرجع إلى السياق العام الذي وردت فيه القصة في القرآن الكريم، والذي جاء فيه قول الله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[1].
الدرس الأول: إتقان الأداء:
لا شك أن جودة الأداء، وإتقان العمل، من أهم ما يشغل الإدارة الآن، حتى إننا لا نكاد نجد أمرًا من أمور الإدارة الآن إلا وقد اقترن بتلك الموجة الجديدة، والتي أطلق عليها: "الجودة الشاملة"، واختصارًا "TQMوالتي يمكن تلخيصها بالإتقان في العمل، وتعني بأن يؤدي كل فرد - في أي مكان بالمنظمة التي يعمل بها، وفي أي وقت - عمله بأعلى درجة من الإتقان، دون خلل أو تقصير؛ وذلك من خلال منظومة تعاقدية متكاملة - وإن كانت غير مكتوبة - تربط بين جميع أفراد ووحدات وأقسام وأجزاء المنظمة ببعضها البعض، لدرجة أن الخلل في أي جزء منها يؤثر سلبيًا على باقي الأجزاء، مصداقًا لوصف الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك العلاقة التي تربط بين المؤمنين بـ "الجسد الواحد، في التعاطف والتراحم, وبـ "البنيان يشد بعضه بعضًا" في القوة والتماسك.
وخلاصة الإتقان العام في أية منظمة من أي فرد هو الامتثال لأمر الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..)[2]..
وذلك ما نستشفه من موقف النملة التي أمامنا؛ فإنها قامت بأداء الدورالمنوط بها على أفضل حال وأكمل وجه, أقل ما يمكن أن نصفه بأنه أعلى درجات الإتقان؛ ذلك الإتقان الذي يصل إلى تحقيق الهدف بكفاءة وفعالية..
فلقد أنذرتقومها في الوقت المناسب، وأنقذتهم من كارثة محققة؛ بفضل ما قامت به بإخلاص وإتقان, والذي سوف يبرز في الدروس التالية.
الدرس الثاني: اليقظة والانتباه والالتزام:
فمن أهم المتطلبات لنجاح أي عمل ضرورة توافر صفات اليقظة والانتباه والالتزام، وهي تلك الصفات التي توفرت في النملة، وجسد حضوره الدور الذي قامت فيه في إنذار قومها!
فبدون يقظة النملة وانتباهها والتزامها بدورها لم يكن يُتصور أداء كامل للدور, بل إن غفوة أو غفلة واحدة كان من الممكن أن يترتب عليها هلاك كامل ودمار ماحق لكافة أفراد قومها أو المنظمة التي هي فيها!
ومن ثم فإن من دواعي الإتقان والإحسان، أن يكون كل فرد، في قيامه بالدور المنوط به، على أعلى درجة من درجات اليقظة والانتباه والالتزام، وبشكل كامل ومستمر؛ فإنه إنما يقف على ثغر من الثغور التنظيمية, ولا يجوز أن تُؤتى المنظمة من قِبَلِه (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[3].
فالخلل من قِبَل فرد أو بضعة أفراد في المنظمة لا يعود بالضرر عليهم وحدهم، وإنما يعم الضرر والخسران الجميع, ولقد كان موقف الرماةيوم أحد أعظم دليل على هذا الدرس، في اليقظة والانتباه والالتزام التام..
الدرس الثالث: الهمة والإرادة العالية:
نفهم أن كل أمر عظيم يحتاج إلى همة وإرادة عالية لإتمامه, وأعدى أعداء النفس ضعف الهمة والإرادة؛ لذا يقول الله عز وجل: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)[4].
ويقول الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم       
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
من هنا نعلم أن وراء تصرف النملة، ووراء إخلاصها وإصرارها والتزامها، همة عالية, وإلا لكان الكسل والتثبيط، ومن ثم التسليم والقعود هو النتيجة، ولن تعدم التعليل والتبرير حينذاك!!
الدرس الرابع: العزيمة الماضية:
إذا كانت الهمة إعداد العدة ووضع الخطة، والأخذ بكافة أسباب النجاح لأداء مهمة معينة, فإن العزيمة يقصد بها المُضيّ وعدم التردد عند التنفيذ، لأي سبب من الأسباب المقعدة عن العمل.. مصداقًا لقول الله عز وجل: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[5].
وقديمًا قال المتنبي:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال آخر:
وإن كنت ذا عزم فانفذه عاجلاً
فإن فساد العزم أن يتقيدا
ويتضح من موقف النملة أنها ليست فقط ذات همة عالية في الأخذ بالأسباب، وإنما هي تنهي ما بدأت، وتواصل الجهد لتنفيذ مهمتها لآخر مدى، ولا يوقفها شيء عن تحقيق تلك المهمة، ولو كان فيه نهاية لحياتها!!
وهذا من عزائم الأمور التي قد لا نراها تتوافر لدى الكثير من المديرين أو الأفراد العاديين، فلو أن النملة ترددت ولو برهة، أو تباطأت في القيام بدورها، لما استطاعت أداء مهمتها في إنقاذ قومها من هذا الخطر المحدق..
الدرس الخامس: التضحية وإنكار الذات:
لا عمل بلا جهاد, ولا جهاد بلا تضحية، وكل غاية أو هدف نبيل يحتاج - لا شك - إلى جهاد وتضحية كبيرة في سبيله, والتضحية تكون بالوقت، أو بالمال، أو بالنفس وهو أعلاها درجة, وكلما زاد إخلاص الفرد لعمله وإيمانه برسالته، وكلما قويت همته وعلت عزيمته، فإن استعداده للتضحية في سبيل هذه الغاية يصل إلى مداه.
ولعل ذلك يحتاج درجة عالية من الانتماء، بل من الالتقاء بين كل من أهداف الفرد وأهداف المنظمة، حتى يتم الوصول إلى درجة الانصهار، وهو أقصى ما تتمناه أي إدارة من الفرد في علاقته بالمنظمة, بل قل: أقصى ما تحلم به!
والنملة بما كان لها من صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي[6]، قد بدت في أعلى درجات التضحية في سبيل قومها, وذلك حين سارعت بكل ما تملك من قوة ضعيفة، أمام سليمان عليه السلام وجنوده، لتنذر قومها قبل أن يدهمهم, منادية عليهم بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل، وباللغة المتعارفة بينها، أن ادخلوا مساكنكم كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم، وسليمان عليه السلام - من حسن حظها - كان يسمع صوتها ويعقل منطقها!
وكان بوسع هذه النملة أن تتنحى جانبًا ولا تفكر إلا في إنقاذ نفسها؛ مبررة ذلك بأنها إذا سارت لإخبار قومها في نفس خط سير الجيش, فإما أن يدهمها وإما أن يصل قبلها، وأنها لن تتمكن من الإبلاغ في الوقت المناسب على أية حال, إلا إنها اختارت المخاطرة في إبلاغ قومها بالسير في نفس خط سير واتجاه الجيش؛ مما يدل على التضحية العالية وإنكار الذات.. وأي درس عظيم هذا؟!
ولحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى أظهر لنا هذا المنطق، عن طريق فهم سليمان عليه السلام لغة ومنطق الحيوان، وليس مجرد صوته!
الدرس السادس: النظام وتقسيم العمل:
مثل مملكة النحل، فإن مملكة النمل - كما نعلم جميعًا - تتميز بالنظام والتنظيم الدقيق، الذي يصعب على البشر غالبًا اتباع مثله، وكذلك الترتيب وحسن التدبير، بل والتخطيط للمستقبل, وفي هذا الموقف نستنتج كم هناك من نظام وتقسيم للعمل والمهام والمسئوليات!!
فعلى ما يبدو أن مهمة هذه النملة صاحبة المقولة تمثلت في الحراسة والاستطلاع عن بُعد؛ وذلك بغرض الإنذار والتنبيه من أي أخطار قبل وقوعها بوقتٍ كاف, وكما جاء في القرآن الكريم، فقد ورد ذكر النملة نكرة, أي أنها نملة عادية، فليست زعيمة النمل ولا رئيسة المملكة (قَالَتْ نَمْلَةٌ)، وإنما هي تؤدي مهمة كغيرها من أخواتها, وذلك في شكل منظومة متناغمة متكاملة ومتناسقة، يتوافر لها عنصري التنظيم وجوهره الذي يتضمن كلاً من التقسيم والتنسيق بأعلى درجة من الكفاءةوالفعالية.
الدرس السابع: إدارة الأزمات:
درس مهم أيضًا من قصة النملة، ويتمثل في كيفية إدارة الأزمات والكوارث؛ إذ يعتبر أهم مبدأ في إدارة أي أزمة هو تجنب حدوث الأزمة من الأصل، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال سيناريو متوقع للاحتمال الأسوأ, بإثارة سؤال هو: ماذا لو حدث الأسوأ؟
والأسوأ في حالتنا هذه هو قَدم مجموعة كبيرة من البشر تسير في اتجاه مملكة النمل دونقصد، فتهدمها وتحطم كل ما فيها ومن فيها, وهذا يمثل كارثة بكل المقاييس بالنسبة لمملكة النمل, ومن ثم كان لا بد من العمل على تقليل احتمال وقوع مثل هذا الأمر, وتقليل الخسائر المترتبة عليه إن وقع قدر الإمكان, والأفضل في هذه الحالة هو أن يتم العمل على محور الاحتمال، وذلك بإنشاء محطات للإنذار المبكر، وقراءة نذر الأزمة قبل وقوعها بوقت كاف، والاستعداد الجيد لها.
ونفهم مما قامت به النملة في هذا الموقف أنها قد قامت بأعظم إنذارمبكر لتنبيه قومها باحتمال خطر مؤكد قادم, حتى وإن كلفها ذلك حياتها، كما سبق أن ذكرنا, كما أن هناك احتمال لأن يكون سليمان وجنوده في سيرهم في الاتجاه الذي رأته النملة، أقرب إلى تدمير مملكة النمل، وكذلك من المحتمل أن ينحرفوا عنها أو يبتعدوا لأي سبب من الأسباب.. فكل ذلك وارد, ولكن النملة لم تدع الاحتمالات الأخرى تسيطر عليها وتقول مثلاً: ستمر الأمور بخير بإذن الله ويسلمها الله، أو غيرها من المقولات التواكلية, وإنما اتخذت سبيل الإنذار المبكر من خطر محدق؛ حتى تتجنب الأسوأ في حالة حدوثه.
الدرس الثامن: المبادرة:
وروح المبادرة هنا تظهر بشكل واضح في السعي لأداء المهمة دون انتظار أو تواكل على غيرها، أو انتظار لسواها كي يقوم هو بالمهمة, قائلة مثلاً: لماذا أنا؟ ولكنها تجردت لقيام المهمة متمثلة قول طرفة بن العبد في معلقته:
إذا القوم قالوا: من فتىً؟ خِلت أنني     عُنيت فلم أكسل ولم أتبلَّد
الدرس التاسع: الإنجاز:
فإذا كانت المبادرة هي قمة الإقدام بفكرة أو الاستعداد لأداء مهمة، فإن الإنجاز هو الوصول بها إلى دائرة التنفيذ والتمام، وكلاهما - المبادرة والإنجاز - يمثلان روح الإدارة، وهو ما فعلته النملة تمامًا؛ إذ بادرت وأنجزت!
الدرس العاشر: الشعور بالمسئولية:
لعل ما نريد الوصول إليه هنا هو أنه لم يكن لكل ما سبق أن يحدث دون وجود درجة عالية من الإحساس بالمسئولية التي تستشعرها نملة، ربما تكون في أسفل الهرم التنظيمي من عموم مملكة النمل، فظهرت وكأنها المسئول الأول عن قومها!
ومثل هذا الشعور والإحساس العام بالمسئولية في كافة أرجاء أي تنظيم، من أعلاه إلى أدناه, هو أقصى ما تطمح وتحلم أي إدارة بتحقيقه في أية منظمة تديرها، لكننا وجدناه هنا واقعًا ملموسًا، وهذا هو درس الدروس العظيمة وقمتها من وجهة نظري!
ولعل هناك المزيد من الدروس والعبر من قصة النملة غير ما ذكرنا، إلا أن هذا هو ما أفاء الله به علينا..
فهل نتعلم؟ وهل نعمل لكي نكون مثل هذه النملة؟! وهل أدركنا الآنلماذا توجد سورة في القرآن باسم النمل؟


[1] النمل: 17-19.
[2] المائدة: 1.
[3] الأنفال: 25.
[4] التوبة: 46.
[5] آل عمران: 159.
[6] انظر سيد قطب: في ظلال القرآن 5/ 378.

 


جميع الحقوق محفوظة