هل في الإسلام حقًا حلٌ لكل مشكلاتنا الإدارية؟ قراءة في شهادة اثنين من أكبر علماء الغرب في القرن العشرين

منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، لفت نظري وأنا أحضر لمقترح دراسة الدكتوراه (وكانت محاولة لبناء نظرية في الإدارة من منطلق إسلامي) بعض الإشارات في أحد الكتب التي اطلعت عليها عن عالمين بارزين من أمريكا، استقدمتهما الحكومة المصرية بعد عشر سنوات من الثورة، أي حوالي سنة 1962م؛ وذلك بهدف إعادة هيكلة الجوانب الإدارية للدولة.

ولما حطَّا رحالهما في مصر، قدَّما تقريرًا شهيرًا كنا ندرسه في الإدارة العامة في مرحلة البكالوريوس، مع أ. د. حسن توفيق رحمه الله، تحت مسمى "تقرير جوليك وبولوك"، كمرحلة من مراحل الإصلاح الإداري في مصر، إلا أن ما لفت نظري في كتاب أ. د. عسّاف هو أنه أشار إلى جزء من التقرير لم يتعرض له أحدٌ من قبل، ولم نتعرف عليه نحن في دراستنا في مرحلة البكالوريوس، ألا وهو ذلك الجزء المتعلق بعلاقة الإسلام بنظام الإدارة!

حيث أفرد هذان العالمان الغربيان فصلاً في بداية تقريرهما أسمياه "الإسلام والحكم"  Islam and Government، وأشار أ.د.عساف رحمه الله إلى بعض مما أورداه..

وفي الحقيقة فإن ما قرأته قد بهرني، ولما ذهبت للأستاذ الدكتور على عبد المجيد عبده، الذي كان حينئذ رئيس قسم إدارة الأعمال بكلية التجارة جامعة القاهرة، وأردت أن يشرف على بحثي في الدكتوراه في هذا المجال، فإنه قد بادرني بسؤال لم أكن أتوقعه، حيث سألني: هل اطلعت على هذا التقرير؟ فقلت: لا، فقال: لماذا لم تطلع عليه وأنت باحث، وتأخذ ما كتب عنه من متفرقات هنا أو هناك؟ فسألته: وأين أجده؟ قال: لا بد وأن يكون أصوله في الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.

ولقد كان أستاذي الدكتور علي عبد المجيد من الرؤساء السابقين لهذا الجهاز، ثم وزيرًا للتنمية الإدارية..

فذهبت وتوكلت على الله، وحصلت على النسخة الإنجليزية والنسخة العربية الوحيدة التي ترجمت عنه، وصورت النسخة العربية كاملة، واطلعت على الفصل كله، والذي لم يكن يزيد عن صفحتين تقريبًا، ولكن - وللأمانة - فقد أذهلني ما كتباه، وشعرت من حينها بمدى العجز والتقصير من جانب علماء الإدارة المسلمين عن القيام بالتعرف على ما في ثقافتهم الإسلامية من كنوز إدارية فذة وعظيمة!!

وفي الوقت نفسه احترمت شدة إخلاص العالمين الأمريكيين، وموضوعيتهما، وعمق ما كتباه رغم شدة إيجازه..

واليوم، وبعد أكثر من ربع قرن من هذه الواقعة، ومرور نصف قرن تقريبًا على إعداد هذا التقرير، فإنه لم يجد حتى الآن من يهتم به ويبرز ما ورد فيه، أو حتى ينشره ولو بأية وسيلة من وسائل النشر؛ كي يكون دليلاً لهؤلاء المستغربين والمبهورين بحضارة غيرهم، والمنهزمين غير الواثقين من أنفسهم ومن حضارتهم؛ كي يعلموا - ومن واقع شهادة محايدة من عالمين غير مسلمين، وليسوا مجرد رجلين عاديين، وإنما هم من أبرز علماء الإدارة الكلاسيكية في القرن العشرين - أن في إسلامنا العظيم ومنهجه القويم حلاً حقيقيًّا لجميع مشكلاتنا؛ المهم أن نثق في ذلك، ونحيط بكل جوانبه، وننقب عن درره ولآلئه.

فأغلبنا لا يقتنع في كثير من الأحيان إلا بما يقوله الخواجات "عقدة الخواجة"، وربما يعتبر البعض رجلاً مثلي متحيزًا ومتعصبًا فيما أكتب؛ وما ذاك إلا لأني أنتمي لهذا الدين وهذه الثقافة الإسلامية، أو هكذا قد يتهم البعض مثلاً أمثالي الذين يحاولون إبراز ما في ديننا الحنيف من مبادئ عظيمة، وخاصة في مجال تخصصنا وهو الإدارة.

إذن فالأمر يحتاج منا إلى وقفة متأنية؛ لنعيد معًا قراءة هذه الوثيقة المهمة، والتي يمكن أن نكتب عنوانًا جديدًا لها، وهو: "هل في الإسلام حقًا حلٌ لكل مشكلاتنا الإدارية"؟!

وقبل أن أترك القارئ مع تلك الوثيقة، التي هي - كما ذكرت - فصل من تقرير كبير للعالمين الأمريكيين عن إصلاح الإدارة الحكومية في مصر، وهو الفصل الأول الافتتاحي؛ فإنني أود أن أطلب من كل من يقرأها أن يعيد قراءتها مرة بعد مرة، ثم يتمعن جيدًا في كل كلمة وحرف مما ذُكر، ويحاول أن يربط بينه وبين ما نحن عليه في الواقع، ثم يتساءل:

ما الذي خلص إليه هذان العالمان؟ وما هي أهم توصية خرجوا بها من ذكر هذا الفصل؟ وهل تم العمل بهذه التوصية أم تم تجاهلها؟ وكيف كانت النتيجة؟ وماذا لو حدث العكس؟ وهل ترى أنهما قد استفادا شخصيًا من جراء ما تعرفا عليه من تلك المبادئ الإسلامية التي اكتشفا أن لها علاقة وثيقة بالإدارة؟!

هذا ما أود أن أترك لكل قارئ فرصة ليجيب على مثل هذه التساؤلات مع نفسه، ومن صميم اجتهاده هو.

نص الوثيقة:

والآن أترك حضراتكم مع نص الوثيقة كما هو، وأترك التعليق عليها وتفصيلها لمقالات تالية متتابعة بإذن الله تعالى.

الإسلام والحكم Islam and Government

إننا ندرك حق الإدراك أن النظم الحكومية تتكيَّف وفق مقتضيات الجو الثقافي الذي توجد فيه، ولا يمكن بحث خطط إعادة تنظيم جهاز أية حكومة أو إجراءاتها بمعزلٍ عن تعرُّف التيارات العامة التي تسود حياة الأمة، والمعتقدات الأساسية التي تدين بها.

غير أن الحكومة أيضًا تعتبر من القوى الإيجابية في التغيير والتطوير، وآية ذلك واضحة فيما تم خلال العشرة أعوام التي انقضت على قيام الثورة المصرية.

لهذا كان على من يتأمل في المستقبل، ويقترح إدخال تغييرات هامة، أن يعني حق العناية بدراسة قوتين كبيرتين:

أولهما: التأثير القوي للثقافة، الذي يميل إلى الإبقاء على التقاليد الموروثة.

الثانية: القيمة الخلاقة المبدعة للجديد من الأفكار والنظم التي قد تغير وضع شعب من الشعوب، بأن تدفعه إلى حياة جديدة ذات قيم ومعتقدات جديدة.

ومن المهم أن نعترف منذ البداية بأن أمر جهاز الحكم ليس بأهم الأمور، فالمعتقدات والقيم التي يتركز عليها تفوقه أهمية وخطورة، فإذا استطاع الجهاز الجديد أن يبتعث هذه المعتقدات والقيم، وأن يصوغها ويشكلها في صورة نظم، فإن التقدم الذي يحرزه الشعب حقًا لا يكمن في النظم الحكومية، بل فيما تقوم عليه من قوى أخلاقية وفلسفية وروحية.

لهذا كان على المسئولين عن إعادة تنظيم الجهاز الحكومي على نحو جذري أن يستهدوا بهدي ثقافة الأمة ذاتها، وفهم المعتقدات والقيم التي تسير عليها الأمة في حياتها.

وكان من المتعذر علينا أن نفهم تلك المعتقدات والقيم لأننا ننتمي إلى ثقافة أخرى؛ لهذا بذلنا جهدًا متصلاً للتعرف عليها، لا عن طريق القراءة فحسب، بل كذلك عن طريق الاجتماع بالقادة في ميادين الدين والأخلاق والفلسفة، لكي نتبين تيارات الثقافة المصرية التي يبدو أن لها تأثيرًا أساسيًا في المشكلات التي نبحثها.

وقد راعنا خلال البحث أن اهتدينا إلى عدد من المعتقدات الأساسية الوثيقة الصلة بتلك المشكلات، وإننا لنورد تلك المعتقدات فيما يلي في صورة بالغة الإيجاز خالية مما تستحقه من إفاضة وتفصيل:

à   الناس سواسية أمام الله، ومن ثم أمام القانون.

à   ليس للحاكم ولا لرجل الدين ولا لأية فئة أن تحول بين المرء وحقوقه وواجباته، أو تفصل بينه وببن الله.

à   الاستغلال الشخصي للنفوذ يأباه الخلق الكريم.

à نظام القيادة، نظام مستحب من حيث المبدأ، ولكن كلُّ راعٍ مسئول أمام الله عن رعيته؛ وبذا يكون مسئولاً عن رعاية شئون الناس، ولا تكون القيادة بالوراثة، بل بالاختيار.. ويبرر قيامها ما تلتزم به من مستويات خُلُقية، وما تقدمه من خدمات.

à الأخذ بالشورى على الصعيدين المحلي والقومي أمر لا بد منه في اتخاذ القرارات والأعمال الحكومية والانتخابات.

à نظام الملكية الفردية حقٌّ مقدسٌ، ينطوي على ضرورة استخدام الممتلكات بنحو مثمر، مع تخصيص قدر من الدخل في عون المعوِّزين وخدمة المجتمع والضرائب (الزكاة والإنفاق).

à للمجتمع وللحكومة اللذان يقيمان المجتمع على أساس الشورى أن يقررا ما يدخل في باب المعروف وما يدخل في باب المنكر، استنادًا إلى المبادئ الخُلُقية والدينية المقررة.

à   العمل له مكانته الخاصة، ويستحق العامل أجرًا عادلاً على عمله.

à الإنسان مكلف بكسب العلم، وإعمال العقل، واستخدام المعرفة التي حصَّلها على هذا النحو من نفع الناس ومرضاة الله.

ويتجلى من تعمق هذه النقاط أن الثقافة الإسلامية من أصلح الأسس للحكم الناجح في العصر الحديث.

وليس هذا فحسب، بل إنها كذلك تقدم للشعب المصري المبادئ التي يمكن أن يقيموا عليها ديمقراطيتهم الجديدة التي تتميز بالقيادة الإيجابية الفعَّالة، ومشاركة الشعب في الحكم، وتحري استخدام الثروة الخاصة والعامة لخير الأمة.

إذا صحَّ ما ذهبنا إليه في تلك العجالة القصيرة، فإن الثقافة الإسلامية تكون أبعد الأشياء عن إعاقة سير التقدم والتطور في النظم الحكومية، كما تكون أبعد الأشياء عن الدعوة إلى الطاعة العمياء أو التشبث بالتقاليد العتيقة؛ ذلك أن الثقافة الإسلامية تشجع الإنسان على استخدام عقله في تقدير مقتضيات العالم الحديث، مع الاطمئنان إلى القيادة المسئولة، وتبادل الرأي والمشورة.

وهذا على التحديد هو المنهج الذي صارت الحاجة ماسة إليه.

 

أ.د. محمد المحمدي الماضي

أستاذ إدارة الإستراتيجية

كلية التجارة - جامعة القاهرة

 


جميع الحقوق محفوظة