القواعد والهياكل والإجراءات ، ثوابت أم متغيرات

 

القواعد والهياكل والإجراءات ، ثوابت أم متغيرات

 

أ.د. محمد المحمدي الماضي

 

          من أعجب العجب في الإدارة أن يغيب الهدف عن عين المديرين وخاصة الاستراتيجيين منهم ، مع الوقت...!

فتتحول الوسائل (اجراءات ، قواعد ، هيكل ...الخ) التي كانت مناسبة لظرف ووقت معين ،  إلى ثوابت وغايات في حد ذاتها .

 حتى لو تغير الوقت وتغيرت الظروف وأصبحت هذه الوسائل خارج نطاق الزمن...!

          ومما هو معلوم من الإدارة بالضرورة أن نهاية كثير من الشركات والمؤسسات والحركات وحتى الدول والحضارات والامبراطوريات ، كان سببه الأساسي هو السير عكس هذه الحقيقة ، ووقوعها في مصيد الجمود القاتل مع الوقت (Active Inertia)، وليس اختفاء شركة عالمية عملاقة في أوج نجاحها مثل شركة نوكيا إلا مثال ليس الأول ولا الأخير كدليل متكرر على ما نقول.

          ولعل الحالة التي سنعرضها والتي حدثت في دولة تعد متقدمة إداريا ، والتي يوجد مئات الآلاف مثلها لدينا تعد خير دليل على ما نقول ، فهيا نقرأها معا ثم نعلق على مدلولاتها لتعميق اغلاستفادة في مسساتنا المختلفة.

 

في مطافئ نيويورك

 كنا نتصرف بهذا الشكل

          ذات مرة، كان كتاب إجراءات إدارة أطفاء نيويورك ينص على أنه يجب على طاقم الإطفاء وضع السلم على الواجهة الأمامية للمبنى المحترق قبل أي شيئ آخر.

          ثم شب حريق، ووصلت فرقة الأطفاء. لاحظ الملازم أن النيران تشتعل في مؤخرة المبنى، وبدلاً من إضاعة الوقت في وضع السلم على الواجة الأمامية للمبنى حسب الإجراءات، أمر رجاله بالتوجه إلى مؤخرة المبنى لإطفاء النيران المشتعلة. تم إطفاء النيران بسرعة بأدنى حد من الخطورة مع إنقاذ حياة العديد من المعرضين للاحتراق.

          لكن أحد مراقبي إدارة الأطفاء كان موجوداً في المنطقة. كانت وظيفته التأكد من أن الأمور تسير حسب الإجراءات المتبعة. لاحظ المراقب عدم وجود السلم على واجهة المبنى المحترق، وبدأ في اتخاذ إجراءات تأديبية. تدخلت نقابة عمال الأطفاء ، وتم رفع قضية أمام المحكمة.

          وجه محامي الدفاع عن الملازم سؤالاً عن سبب وضع هذا الإجراء في الكتاب. لم يعرف أحد الإجابة، حتى رئيس الإطفائية نفسه. ثم أحضر محامي الدفاع مؤرخاً للشهادة بأنه حوالي قرن من الزمان لم يكن في مدينة نيويورك  عمال إطفاء يعملون بدوام كامل. كانت فرق الإطفاء كلها من المتطوعين، وكانت شركة التأمين تدفع فقط نفقات فرقة واحدة وهي أول فرقة تصل إلى مكان الحريق. وكيف كانت شركة التأمين تتعرف على الفرقة التي تصل أولاً؟  كان يجب على الفرقة التي تصل أولاً أن تضع سلمها على واجهة المبنى.

          ولسنوات طويلة بعد نهاية فرق الأطفاء المتطوعة، لم يناقش أحد كتاب الإجراءات. لم يسأل أحد أبداً: لماذا نتبع هذه الإجراء؟!

 

 

التعليق:

 

الاجراءات والقواعد والهياكل والاستراتيجيات كلها ، ليست إلا مجرد وسائل ومتغيرات ، لكن العقل الإداري البشري المتخلف يحولها مع الوقت إلى ثوابت وغايات في حد ذاتها مع الوقت ؛ حيث تتحول الأمور لبداية كوارث إدارية حقيقية.

1.    معظم المبررات التي يسوقها المدافعون عن القواعد والإجراءات العقيمة الموجودة هو: لقد كنا دائماً نتصرف بهذا الشكل...تماما كما كان يردد من وجدوا أباءهم يعبدون الحجارة ، " إنا وجدنا أباءنا هكذا يفعلون...؟!"

2.    لكي تتأكد من أن أي اجراء هل له ضرورة أم لا ، عليك أن تسأل نفسك أو من يتمسك بهذا الإجراء السؤال التالي: ما هو الهدف من وراء هذا الإجراء ؟ فإذا لم يستطع الاجابة بوضوح أو تلعثم أو حدث له صدمة وانهاش أو قال لا أعلم أو قال قواعد وتعليمات ...الخ فاعلم أنك أمام عبيد للإجراءات.

3.    لذلك من المهم جدا بل ومن أحد أهم وظائف الإدارة الاستراتيجية مع الوقت أن تفرق بشكل واضح بين ما هو متغير وما هو ثابت ، ولا تغفل لحظة عن هذا التمييز المستمر وخاصة بتثبت المتغيرات ، فإذا اجتمع الأمران ( تثبيت المتغيرات ، وتغيير الثوابت ) تكون النهاية حينئذ أقرب إليها من حبل الوريد .

4.    فإذا حدث أحدهما دون الآخر فإن النهاية والتلاشي ستكون مسألة وقت .

5.    للأسف الشديد في معظم مؤسساتنا وشركاتنا ، عامة أو خاصة ، تهدف أو لاتهدف للربح ، نجد أن الأصل هو اعتبار اللوائح والقواعد والهياكل والاستراتيجيات ثوابت وغايات في حد ذاتها ، بل قد تصل في كثير من الأحيان إلى درجة من التقديس كأنها آلهة تعبد من دون الله...!

6.    لذلك من المهم دائما أن نفكر بعقل واع يربط بين أي اجراء والهدف من ورائه .

7.    وحتى لا نقع في تلك المصيدة القاتلة علينا أن نسأل أنفسنا دائما سؤالين مهمين ونجيب عليهما بمنتها الصراحة والوضوح وهما :

8.    السؤال الأول : ما هو الهدف من وراء هذا الإجاء أو التصرف الذي نقوم به؟

9.    والثاني: هل ما نقوم به من تصرف أو ما نتبعه من إجراء لا يزال هو البديل الأفضل الذي يحقق أهدافنا أم لا؟

مع خالص تمنياتي بالتوفيق والسداد،،،،،،،،،،،،،،

أ.د. محمد المحمدي الماضي

أستاذ إدارة الاستراتيجية

كلية العلوم الإدارية

جامعة القاهرة

       www.almohamady.com

 

 

 


جميع الحقوق محفوظة