فجوة التدين: أ.د. محمد المحمدي الماضي

 

فجوة التدين:

أ.د. محمد المحمدي الماضي

WWW.ALMOHAMADY.COM

ليست المشكلة في اعتبار نفسك متدين وأنك تسير على منهج الله ، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في تحديد أو الاجابة على سؤال : من وجهة نظر من هذا التدين؟!

الغالبية تعتبر مرجعيتها في ذلك اختيارها أو بمعنى آخر هواها ،أو بمعنى أدق ،ما تحب أن تختاره وتنتقيه من الدين نفسه بما يوافق هواها في لحظة معينة ،وبالطبع كله من الدين... فأين إذن المشكلة؟

المشكلة أن هناك فخ يقع فيه كثيرون ممن يتدينون (ولا أقصد فئة بعينها) وهو أنهم يقدمون مرادهم واختيارهم من الدين ،على مراد الله واختياره لهم ، فيما يسمى عبادة الحال أو اللحظة أو واجب الوقت وأولوياته.

 وقد ترى لذلك نماذج كثيرة في حياتنا فهناك من يكثر ، أو تكثر من صيام النوافل بينما يقصر فيما يريده الله منهم من فروض لا تسامح فيها مثل بر الوالدين ، أو الاحسان للجار ، أو ظلم الآخرين ، أو عدم ارتداء الزي بما يتوافق مع الشرع، أو السعي في الفساد ،أو الغيبة ،والنميمة والكذب ،أو اتهام الناس بالباطل ،أو إخلاف الوعد ،أو التفريط في الأمانة ...الخ ذلك .

والشيء الأعجب أنك ترى أن هناك من أصبح ينظر للتدين على أنه كمالات يجب أن يتصف بها الآخرون ممن اتسموا بسمت الدين ويقف لهم بالواحدة ، ويحاسبهم على كل هفوة (وهذا جيد) لكن غير الجيد أن يُعفي نفسه بشكل كامل من تبعات ذلك ، وكأنه أصبح ينتمي لدين آخر وقيم وأخلاق أخرى، وهذا شائع بيننا للأسف الشديد...!

إن الله سبحانه وتعالى يحاسبنا على مدى التزامنا في كل لحظة بما يجب فيها ؛ من أمر أو نهى .

ولعل ذلك ما جعل رسول الله صل الله عليه وسلم نفسه يستشعر الخطر وربما الرعب ، كما ذكر (شيبتني هود وأخواتها ) لماذا ؟ أعتقد أن أخطر آية تسببت في ذلك هي قوله تعالى  " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (هود: 112 )

فهنا الأمر لمن يفهمه واضح ومحدد وصعب جدا ..لأن المشكلة ليست في الاستقامة كما تتخيل أو تتصور أو كما يحلوا ويروق لك...ولكن الاستقامة كما أُمرت ، والأمر هنا من الله فمن ذا الذي يدريك أنك في كل لحظة على الاستقامة الصادقة كما أمر الله في هذه اللحظة ؟

حتى رسول الله صل الله عليه وسلم نفسه كان مدركا ومشفقا جدا من دقة الموقف ، فربما ينحرف الانسان ولو شيئا قليلا عن الاستقامة كما أراد الله سبحانه وتعالى ، ومن ثم تتسع الفجوة أو تضيق بين الاستقامة كما أمر الله والاستقامة كما يحلوا لكل منا ...

ولعل ذلك ما يفسر سر ذلك الاختلاف الكبير بين الناس في نظرتهم للتدين واعتبار أنفسهم على الحق - حسب اختيارهم- وغيرهم على الباطل ، وهذه هي الطامة الكبرى ،حيث يجب أن يظل كل منا في حالة تحر وتمحيص مستمر للتأكد من نفسه هو وإلى أي درجة أنا على الاستقامة والتدين كما يريد الله ويحب حتى وإن كان ذلك مخالفا لما أحبه أنا وأريده ...!

وتأمل جيدا في ذلك قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (المائدة: 105 )

وتأمل أيضا دقة قوله تعالى في الوعد بالنصر والتمكين للذين آمنوا حيث قال:

" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ" (النور : 55) تأمل جيدا قوله تعالى " وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ" وليس الذي ارتضوه أو توهموه لأنفسهم ...

       ولذلك كان الإمام الجنيد رحمه الله يقول صحبت كثيرا من القوم (يعني من المتصوفه في زمنه) فوجدت أكثرهم إنما يعبدون أنفسهم ، حيث قدموا مرادهم من الله على مراد الله منهم...!

لاشك أن الأمر بالفعل خطير وأنا أذكره هنا لأتذكر أنا شخصيا ولأذكر غيري أيضا أن يلتفت لمستوى التدين والاستقامة التي هو عليها وهل هي ما يريد الله منه ويحبه ؟

ويجتهد للتعرف على ما يريده الله ويحبه في كل لحظه ،وهو والحمد لله موجود بل ومدون ومكتوب فيما وصلنا من كتاب الله وسنة رسوله.

وبدلا من أن يشغل كل منا بعيوب غيره عليه أن يقيم نفسه ويفترش عيوبه هو ، ويحدد الفجوة الايمانية أو ما يمكن أن نسميه " فجوة التدين التي لديه " ويحكم العقل والايمان ويسعى جاهدا ودائما لجسر تلك الفجوة ليكون على أفضل ما يحب الله .

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا على صراطه المستقيم كما أمر ، وأن يجعلنا من الذين يتقونه حق تقاته ولا يموتن إلا وهم مسلمون وأن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته ومحبته ورضوانه وحفظه ونصره وجنته...

 


جميع الحقوق محفوظة