الإدارة في ظلال السيرة...صناعة أعظم قائد (3)

الإدارة في ظلال السيرة
صناعة أعظم قائد
أ.د. محمد المحمدى الماضى
أستاذ إدارة الإستراتيجية بجامعة القاهرة
----------------------------------------------------

لقد كان مولده صل الله عليه وسلم، مولدا مؤثرا ومبشرا؛ مؤثرا لكونه أصيب باليتم حتى قبل مولده وهذا مما كان له أبلغ الأثر الذي يتبعه أعلى درجات الحنو والإشفاق والتعاطف الإنساني عليه من كل من استقبله.
 ومبشرًا لكل ما صاحبه من إرهاصات عجيبة وواضحة،مثل تلك الإشارات والرؤى التي صاحبت مولده حول زوال ملك فارس والروم ،وكذلك حادث الفيل الذي كان في نفس يوم مولده على أرجح الروايات.
إنني ممن يؤمنون أن القائد يصنع ولا يولد ، ولكن منذ أن يولد ، ولعل هذه تكون نظرية ثالثة تفك الاشتباك بين نظريتين شائعتين في القيادة، لكن ما أود تقريره هنا هو أن سنن الفطرة واستقراء التاريخ ، والمنهج الرباني مع الأنبياء والرسل هو الصناعة المبكرة وخاصة في السنوات الأولى من ولادة الإنسان حيث يتشكل فيها معظم القيم والأخلاق والعادات الأساسية التي تمثل النواة الصلبة لشخصيته بعد ذلك .
إنني فقط الفت نظر  القارئ إلى مثال موسى عليه السلام وكيف تم صناعة شخصيته القيادية منذ اللحظة الأولى لمولده حيث تربى في أفضل مكان يمكن أن يتربى عليه قائد حينئذ وهو قصر فرعون نفسه ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى "ولتصنع على عيني" "واصطنعتك لنفسي"
 وأما من الناحية الفطرية فلعلنا نجد مثالا بارزا في مملكة النحل حيث تضع البيض كله ملكة واحدة ولكن يتم صناعة وإعداد الملكة التالية من خلال التنشئة والعناية الخاصة والتغذية المختلفة والتي تصل في قيمتها وتكلفتها أضعافا مضاعفة لما يتم إنفاقه على النحل العادي (250 : 1 تقريبا )
ولعل هذا يعيد صياغة أساليب وطرائق التفكير والتعامل مع الشخصية القيادية لدى الإنسان المصري سواء لدى الأباء أو المربين أو الإداريين أو كافة المؤسسات المجتمعية ،حيث تترك أخطر مرحلة وهي السنوات الست الأولى للعشوائية والصدفة ، وربما يكون ما يتم فيها من تدمير، بحسن نية أو بسوء نية هو الأمر السائد بكل أسف .
إذن لقد كان لكافة المستقبلات للرسول صلى الله عليه وسلم أثر بالغ في إحاطة شخصيته منذ أن يولد بقدر كبير من الحنو والعاطفة الجياشة والاهتمام الزائد والاحتفال به، سواء من أمه أو أهلها أو جده الذي مثل له أعلى درجة من درجات الأبوة والوالدية الراعية والحانية بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى ، وهو من هو ، إنه عبد المطلب سيد قومه ، وخاصة بعد وفاة والده قبل مولده ، فهو الذي اختار إسمه وهو الذي اعتبره إبنه مباشرة وهو الذي رفعه فوق جميع أبنائه وأحفاده حتى سن الثامنة حيث توفي هذا الجد الذي مثل في هذه المرحلة مدرسة القيادة العملية الميدانية التلقائية حيث كان لحرص جده الشديد على أن يصاحبه في جلساته وحواراته وممارساته باعتباره سيد قومه أبلغ الأثر على بناء شخصية قيادية فطرية طبيعية غير متكلفة ، تشربت ذات الوالدية الراعية الحانية ، وقيم الشخصيات القيادية الكبيرة وكافة أخلاقياتها وصفاتها باعتبارها جزءًا يغرس في الشخصية في هذه السنوات المبكرة من عمر الإنسان ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تعويضها بعد ذلك أبداً.
 وهذا جانب من أهم الجوانب المحددة للشخصية القيادية الفعالة ، وهو ما أصبح يطلق عليه أخيرًا الذكاء العاطفي Emotional Intelligence .
فإذا أضفنا إلى ذلك تلك الدرجة الكبيرة والمكثفة من الوالدية الراعية الحانية لجده ، والتي كونت في شخصيته صل الله عليه وسلم روح المسئولية والحرص على من حوله واحتضانهم والحنو عليهم وخلق روح المبادرة لديه باعتباره المسئول الأول عنهم ، تماما كما كان يفعل معه جده ، وما كان يراه من فعله مع الآخرين وكذلك ما كان يسمعه من
أحاديث عن مواقفه وسيرته وما قد يتداول في مجالس هؤلاء الكبار من سير الفرسان المعدودين ومواقفهم وأخلاقهم وشعرهم ، أمثال عنترة بن شداد وغيره مما يتغلغل بشكل غير مباشر في الأعماق الوجدانية للصغار مشكلا النواة الصلبة الأساسية للشخصية القيادية في هذه المرحلة الحرجة التي يستحيل تعويضها بعد ذلك .
إنني أعتقد أن كافة مستقبلات القوة والشدة والغلظة التي هي أشياء طبيعية ومألوفة في تلك البيئة البدوية القاسية قد اختفت معه تماما صل الله عليه وسلم وخاصة في بداياته المبكرة ولحكمة ربانية عليا فقد مات أبوه قبل أن يولد ولعل هذا يضاعف من شعور الحب والإشفاق والحنو عليه من كل من يحيط به ، ثم موت أمه المبكر في نهاية السنوات الست الأولى بعد أن أعطته تلك الجرعة العالية من الإهتمام العاطفي ، ليضاعف من اهتمام كل من حوله به ، وخاصة الجد الذي مارس أعلى درجات الحب والحنو والاهتمام دون أي احتمالية لقسوة الأم أو الأب التي لابد وأن تمارس أحيانا من شدة الاهتمام بالأبناء ، ومع قلة الصبر وطبيعة وظروف السن، بعكس الأجداد الذين يغلب عليهم الرحمة مع الحكمة والصبر والحب مع الأحفاد ، إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يصنع نبيا قائدا خاتما أبرز ما يجب أن يشكل شخصيته هو الرحمة   " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "  والذي يصنعه بنفسه هو الله عز وجل ، فكما هيأ لموسى عليه السلام تربية قيادية تؤصل فيه قوة المواجهة والشدة والبطش لكونه سوف يتعامل مع مهمة محددة تتطلب ذلك سواء كان مع فرعون نفسه أو مع بني إسرائيل ، كلاهما يحتاج شخصية قيادية قوية عنيفة زاجرة آمرة لا تتحمل الخطأ، أوتسكت عنه ، حتى لو كان محتملا ، ولو كان من أخيه هارون نفسه .
لكن الله قد هيأ لمحمد صل الله عليه وسلم بيئة مختلفة ، وأعده بما يؤهله  لقيادة أمة آخر الزمان ، التي يرعاها بحنوه ورأفته ورحمته لترعى سائر الأمم ولتحمل رسالة الرحمة والسلام للعالمين ، فإن كان الله سبحانه وتعالى قد قال لموسى عليه السلام " ولتصنع على عيني " فقد قال لمحمد عليه الصلاة والسلام " إنك بأعيننا " وهو الذي قال له بعد ذلك مذكرا نعمه عليه " ألم يجدك يتيما فآوى ، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى...."
لكن ماذا بعد أمه وجده الذي توفاه الله هو الآخر وهو في الثامنة من عمره .
لقد بدأ يمر بمرحلة تربوية جديدة لم تكن لتبدأ إلا بعد اكتساب تلك النواة الصلبة من صفات وقيم وسلوكيات وعادات قيادية في تلك البدايات المبكرة ، ألا وهي مرحلة التدريب العملى على كافة فنون عصره؛ من رعي وتجارة وحروب وتحمل أعباء معيشة ، وخاصة حينما انتقل إلى كفالة عمه أبوطالب كثير العيال فقير الحال رغم زعامته ونجابته وأصالته ، فدفعه ذلك بالطبع ألى أن يتحمل مع عمه مسئولية وأعباء معيشته وعياله ،وهو في نفس الوقت يقدره ويضعه في مكانته التي أوجدها له جده ولا يدخر وسعا في ممارسة كل ذلك مع القدر الوافر من الحب والحنو والإشفاق والاحترام، ليخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه المرحلة مؤهلا بكل فنون عصره متحملا للمسئولية منذ صغره معتمدا على ذاته منتجا متعاونا مع عمه، وليس مجرد عبئا عليه .
لقد ساهم الرعي في زيادة وبلورة شخصيته القيادية الراعية لديه وتأصيلها ، وكذلك عمق عنده صل الله عليه وسلم شدة الحرص بشكل مطلق خاصة وهو الحريص على كل واحدة من غنمه؛ يفهمها ويتعرف على احتياجاتها ويستشعر آلامها فيجيبها إلى ما تحتاج إليه من ماء أو مرعى أو عناية بصحتها وسلامتها ، رغم عدم قدرتها على التعبير بالكلام عما تحتاج إليه.
إن القائد الفذ العظيم هو الذي يكون لديه القدرة على فهم احتياجات أتباعه وتلبيتها حتى قبل أن ينطقوا بها ، فليس كل ما يحتاج إليه الناس يعبرون عنه بالكلمات، فإذا لم يكن لدى القيادة قدرة على التغلغل إلى عمق المشاعر الدفينة وقراءة ما لم يعبر عنه بالكلمات وفهمه والاستجابة له فإنها سوف تكون من أفشل القيادات في التواصل مع المرؤسين،
 وهذا ما يمثل أعلى درجات التواصل المشاعري الفعال . لقد اشترك مع عمه في التجارة ، كما شارك في حرب الفجار وحقق في كل ذلك نجاحا بارزا وتوفيقا مؤكدا وسمعة طيبة.


جميع الحقوق محفوظة