هدهد سليمان عليه السلام ودروس عظيمة في الإدارة (1)

إن من بين القصص القرآني الذي تضمن بين طياته دروسًا عظيمة في الإدارة، وخاصة تلك التي جاءت على لسان طير أو حيوان، قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد..
تلك القصة التي أرجو من الله أن يمكنني من تناولها ويفتح لي أبواب الفهم والرحمة والفقه فيها، والتي لها ظلال وانعكاسات متعددة الجوانب في مجالات الإدارة، وسوف نبدأ أول خطوات هذه القصة مع الهدهد.. فهيا لالتماس الدروس والعبر الإدارية..
الدرس الأول: يقظة قائد:
يتجلى الدرس الأول في هذه القصة في موقف سليمان عليه السلام، حين حكى القرآن الكريم قوله: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)[1] وذلك بعد أن تفقَّد الطير وتفحَّص من فيه، كما ذكر القرآن الكريم (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)..
فذلك يُعبر ويدل على أن القائد لا بد وأن يكون يقظًا ومنتبهًا لمن معه؛ فيتفقدهم، ويتعرف عليهم عن قُربٍ، وعلى أحوالهم، فيعلم الغائب والحاضر، والقعيد والمريض، وخاصة أولئك الذين يلونه مباشرة.
الدرس الثاني: العقاب المتدرج على قدر الخطأ:
لا شك أن قضية الثواب والعقاب لها في الإدارة مجال ودور كبير، ويمارسها المديرون بمذاهب شتى؛ فمنهم من يرفع سيف العقاب والردع والتخويف على طول الخط، ومنهم من يغمده علي طول الخط، وحار الناس بين هذا وذاك..
لكننا نرى في قصة سليمان، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، مع الهدهد كيف أنه قد أخذ بمبدأ العقاب ابتداءً، باعتباره حافزًا سلبيًا، ولكننا نراه قد تضمن أعلى درجات الموضوعية والعدل والحكمة، ويبدو ذلك في الآتي:
1-                      أنه لم يترك الأمر فوضى ليفعل كل فرد ما يحلو له، دون حساب أو مساءلة وعقاب.
2-                      أنه لم يبدأ في إعلان العقاب المنتظر إلا بعد أن تأكد فعلاً من غياب الهدهد، وأنه ليس مجرد اختفاء مؤقت عن مستوى رؤيته، حيث سأل عن ذلك بوضوح: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)[2]، فلما تبين له أنه غائب فعلاً، أعلن عن العقاب المنتظر له، والذي يناسب مثل هذه الأحوال.
3-                      تراوح العقاب المعلن والمنتظر بين درجات ثلاث: أشدها وأقصاها ذبحه، وأقلها تعذيبه عذابًا شديدًا، كما أعلن أنه لا ينجيه من أحدهما إلا أن يكون لديه حجة بينة واضحة ويقينية، وغير ملفقة أو مدبرة (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)[3].
4-                      ويحمل ذلك في طياته ضرورة ألا يطغي الانفعال على العقل، ولا الغضب على العدل؛ فكثيرًا ما نجد أنه حين يتعرض أحدنا لمثل هذا الموقف، نراه يتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ودون مراعاة لما قد تكون عليه ظروف الطرف الآخر، وما قد تكون أعذاره وحججه.
5-                      كما يشير ذلك التدرج في العقاب إلى ضرورة أن يكون العقاب على قدر الخطأ؛ فإن كان هناك تمرد مثلاً فليكن الذبح، وإن كان مجرد غياب وناتج عن تكاسل غير مقصود أو سبب غير مقبول فليكن التعذيب الشديد، ولا شك أن ذلك سوف يختلف باختلاف درجة التعمد والقصد، ومدى تكرار الفعل الموجب للعقاب.
6-                      إن ما سبق يحتاج - ولا بد - إلى نوع من التحقيق والمحاكمة، وإعلان الإدعاء، وسماع الدفاع، وإعطاء الفرصة كاملة لكليهما، وبشكل عادل ومحايد؛ للوصول إلى البينة التي توضح حقائق الأمور، وإلا كيف يمكن التوصل إلى قرار باختيار العقاب المناسب أو قبول العذر؟ سواء كانت هذه المحاكمة بواسطة القائد نفسه، أو قد تسند إلى فرد آخر مختص، أو لجنة مختصة ( لجنة تأديب).
7-                      إن ذلك يؤكد على نقطة أخرى مهمة، وهي ضرورة وجود ما يسمى بلائحة الجزاءات، تمامًا كما يجب أن يكون هناك نظام كامل وواضح للحوافز، وأن هذه اللائحة يجب أن تكون واضحة ومعلنة ومفهومة لدى كل من يعمل في المنظمة.
8-                      كما يُفهم أيضًا ضرورة الفصل التام بين الشخص والخطأ الصادر منه، والتزام الموضوعية التامة في ذلك، والتعامل معه على أنه بريء إلى أن تثبت إدانته، وإعطاءه فرصة تامة لإبداء حججه والدفاع عن نفسه وتوضيح موقفه. وهذا ما يظهر من موقف الهدهد حين قال لسليمان عليه السلام بعد أن اقترب منه: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)[4]، ولا يمكن أن يجرؤ على مثل هذا القول، ولا يقف مثل هذا الموقف شديد القرب من القائد (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ)[5] إلا إذا كان لا يزال يُعامَل معاملة البريء، ويُنظر إليه من منطلق الفصل بين الشخص والمشكلة التي يمكن أن تنشأ عنه.
9-                      لعل هذه النقطة السابقة من أشد نقاط الإدارة والتربية عمومًا حساسية، وتعرضًا للانتهاك، حيث إننا نرى أن الغالب خلط الناس بين الأمرين؛ فإذا أخطأ أحد أخذنا منه موقفًا، وأعلنا أنه كذا وكذا.. من قبيل: إنك مقصر ومخطئ، والمفروض أن نقول بدلاً من ذلك إن الفعل الذي أتيت به كذا وكذا، هذا الفعل خطأ ولا ينبغي.. إلخ، ولعل ما يؤكد على أهمية الالتزام بهذا المنهج الراقي، ذلك التوجيه الرباني الذي ورد في القرآن الكريم لإرشاد الرسول صلي الله عليه وسلم، وهو قوله الله تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[6]، ولم يقل: "إني بريء منكم"! وهذا مبدأ من المبادئ العظيمة في الإدارة والتربية، والتعامل مع الناس عمومًا، وهو مبدأ الفصل بين الشخص والمشكلة أو الخطأ.
الدرس الثالث: فن صياغة التقارير والإلقاء والعرض:
لقد أكد الهدهد على أن ما لديه من مبررات هي يقينية ومؤكدة، ولا تحتمل التأليف أو الظن أو التخمين أو الافتراض، ولكنها تقوم على الحقائق المجردة.
ومن هنا كان لنا هذه الوقفة مع الهدهد لنتعلم منه أحد فنون الإدارة والاتصالات، فيما أصبح يعرف الآن بـ "فن صياغة التقارير"، والإلقاء والعرض؛ عسانا أن نجد فيها من الدروس ما ينفعنا.
وبدءًا فإن التقرير، سواء كان شفهيًا أو مكتوبًا، ما هو إلا وعاء يحتوي معلومات، يقدم إلى مستوى إداري أعلى؛ للمساعدة على اتخاذ قراراته على بينة ورشد.
وللتقرير الجيد مواصفات عديدة، من أهمها: أجزاءه المتماسكة والمتكاملة والكافية والموجزة، وكلماته الواضحة والمعبرة، وبعده عن الغموض أو التخمين أو الإيجاز المخل، أو التطويل الممل..
وأهم أجزاء التقرير: مقدمة مشوقة، وصلب الموضوع، ثم خاتمة وتوصيات في النهاية.
فماذا عن تقرير الهدهد؟ وأين هو من كل هذه المواصفات؟!! فهيا لننظر ونتأمل..
أولاً: المقدمة:
لقد تضمن تقرير الهدهد كافة عناصر التقرير الجيد، وأولها وجود مقدمة مشوقة، ومعبرة عن الموضوع الذي سوف تتناوله، وذلك حينما قال: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)[7]!
فالتشويق الكامل يأت من قوله "أحطت بما لم تحط به"؛ فهذه المقولة تثير لدى السامع كل قوى الاستعداد والتحدي لسماع ما سوف يأتي بعد ذلك، حتى تجده وكأنه يتساءل: ما هذا الشيء الذي يعرفه الهدهد وأحاط به ولا يعرفه سليمان عليه السلام؟!! رغم مكانته، ورغم ما سُخِّر له من إنسٍ وجنٍّ وجبالٍ وحديدٍ ورياحٍ وطير، ورغم أن الله عز وجل قد أتاه من كل شيء..؟!!
والحقيقة أن هذه المقدمة لم تقتصر على عنصر التشويق فحسب، بل إنها - رغم إيجازها الشديد - قد تضمنت صفة أخرى مهمة، تُعدُّ من أهم صفات المقدمة الجيدة، وهي إعطاء السامع أو القارئ فكرةً عن طبيعة الموضوع، وذلك حينما قال: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)؛ فالموضوع يتعلق بسبأ، وما هي سبأ؟ فعلى المخاطَب أو السامع أن ينتظر بلهفة وشوق لمزيد من التوضيح والتعريف.
ثم إنه قد أبان عن منهجه في هذا التقرير، وهل هو قائم على مجرد التكهن والتخمين والسماع، أم هو قائم على التبيين واليقين والتحقق العلمي الموثق؟ وذلك حينما قال: (بِنَبَإٍ يَقِينٍ).
فما الذي يمكن أن ينقص هذه المقدمة بعد ذلك، رغم هذا الإيجاز الشديد؟!
ثانيًا: صلب الموضوع:
بعد المقدمة التي اشتملت على كل الصفات المهمة، أخذ الهدهد في سرد عناصر التقرير، والتي تمثل صلب الموضوع الأساسي..
فالهدهد هنا يحاول إعطاء صورة كاملة وشاملة وضافية وغير منقوصة عمَّا يتعلق بقوم سبأ، ويمكن لنا أن نتبين أن هذا الصلب قد تضمن عناصر عدة، أهمها:
Ö       نظام الحكم.. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)[8].
Ö       القدرة الاقتصادية.. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)[9].
Ö       النظام الاجتماعي ووضع المرأة فيه.. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)[10].
Ö       النظام الحضاري والصناعي ومدى تقدمه.. وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)[11].
Ö       العقيدة الدينية.. (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[12].
Ö       مدى رسوخ العقيدة في نفوسهم.. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)[13].
Ö       صعوبة تغييرهم وتحويلهم عن هذا الوضع إلا بخطة محكمة ومدروسة تستغرق وقتًا وجهدًا.. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)[14].
ثالثًا: التوصيات:
لم يقف الهدهد عند مجرد النقل والسرد، بل إننا نلاحظ تدخل رؤيته وتقييمه للأمور وحكمته، والتي وصلت مداها بتوصية لنبي الله سليمان عليه السلام يوجهه فيها لطبيعة القرار الذي يجب اتخاذه في مثل هذا الموقف!
وهذا يوضح أعلى الدرجات الإيجابية والمسئولية والمشاركة من مقدم التقرير إلى قائده، ويتضح ذلك حينما نراه يختم تقريره بقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[15]!
وهنا يتوقف سليمان عليه السلام، ويتوجب علينا أن نتوقف نحن كذلك أمام هذا المستوى الراقي من هذا الجندي المبادر، الذي لا يكتفي بمجرد تأديته الأوامر، ولكن ومن منطلق فهمه وإيمانه برسالة المنظمة التي يعمل تحت لوائها، ينطلق ويؤدي، ويبدع ويتفانى في إتقان دوره، بما ينعكس بأعلى درجات الكفاءة والفعالية على تحقيق وإنجاز هذه الرسالة.
الدرس الرابع: لا تبن قراراتك إلا على حقائق:
في درسنا الرابع والأخير من دروس هذه القصة نطرح سؤالاً مفاده: لو كنت مكان سيدنا سليمان عليه السلام.. ماذا كنت ستفعل بعد سماعك لهذا التقرير من الهدهد؟
لا تجهد نفسك؛ إننا لا نريد منك إجابة، فالإجابة موجودة وموثقة في القرآن الكريم، وهي قول سليمان عليه السلام: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)[16]!
فإن مضمون هذه الإجابة هو ما نريده، وهو درس عظيم آخر في الإدارة، ومنه نتعلم أنه لا يمكن للقائد أن يبني قرارًا، وخاصة إذا كان من هذا النوع الإستراتيجي، إلا عن بينه وحقائق لا تحتمل أي لبس أو تخمين.
والعجيب أننا كثيرًا ما نرى خلطًا بين أمور ثلاثة لدى الكثير من المديرين، بل لدى الناس عمومًا، وهذه الأمور الثلاثة هي: الحقائق، والافتراضات، والأحكام أو القرارات.
فإن ما قاله الهدهد لا يزال بالنسبة إلى سليمان عليه السلام مجرد افتراض قد يحتمل الصواب أو الخطأ، ومن ثم لا يجب أن يُبنى عليه حُكمًا أو قرارًا إلا بعد تحويله إلى حقيقة، وهذا يحتاج إلا تبين وتأكد ودراسة، واختبار لصحة الافتراض من عدمه، كما يجب البعد في ذلك عن العواطف والانفعالات والأهواء الشخصية..
وهذا بالضبط هو ما فعله سليمان عليه السلام مع الهدهد، حيث قال: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)"، أي سوف نتأكد أو نتبين مدى صحة ما تدعيه، وبعد ذلك يتم اتخاذ القرار المناسب، ليس فقط بشأن الهدهد وعقابه أو ثوابه، وإنما بشأن القرار الأهم، وهو المتعلق بقوم سبأ، وما يجب اتخاذه حيالهم، وهو قرار إستراتيجي مهم، يتطلب وضع خطة على أعلى مستوى لتحويلهم إلى عبادة الله.
فماذا حدث بعد ذلك..؟؟


[1] النمل: 20.
[2] النمل: 20.
[3] النمل: 21.
[4] النمل: 22.
[5] النمل: 22.
[6] الشعراء: 215، 216.
[7] النمل: 22.
[8] النمل: 23.
[9] النمل: 23.
[10] النمل: 23.
[11] النمل: 23.
[12] النمل: 24.
[13] النمل: 24.
[14] النمل: 24.
[15] النمل: 25، 26.
[16] النمل: 27، 28.


جميع الحقوق محفوظة