حكمة اليوم

قرأنا لك

الخطوات الثمانية لتصميم برامج تدريبية فعالة - عبد الرحمن محمد المحمدي... المزيد

قائمة المراسلة
الاسم
البريد
الجوال

مشاهدة : 2736

توجيهات نبوية عظيمة لبناء الفعالية الشخصية 3)

استكمالا لتلك السلسلة الرائعة لبناء الفعالية الشخصية العليا لتكون على أعظم حالاتها؛ منطلقة متحررة من مكبلات الذات ؛هذه هي المقالة الثالثة عن مكبلي الجبن والبخل

توجيهات نبوية عظيمة لبناء الفعالية الشخصية وإدارة الذات

3) التخلص من مُكبِّلي الجبن والبخل..

أ.د. محمد المحمدي الماضي

أستاذ إدارة الاستراتيجية

كلية التجارة جامعة القاهرة

www.almohamady.com

نتابع الوقوف على مكبلات ومعوقات الفعالية الشخصية، والمنطلقة من وحي التوجيهات النبوية، والمتمثلة في كلماته وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة الأنصاري رضي الله عنه: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ".

وقد تناولنا في المقالين السابقين المكبِّلات الأربع (الهم والحزن، والعجز والكسل)، بعد أن قدمنا لهذا الحديث النبوي الشريف، وأوضحنا كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بالله العلي العظيم من هذه المكبلات، وكيف جعل ذلك ديدنه صلى الله عليه وسلم ومن جملة أذكاره في الصباح والمساء، وعلَّمنا أن نفعل ذلك.

واليوم نتناول المكبلين الخامس والسادس (الجبن والبخل) بمزيد من إلقاء الضوء، وبالشرح والإيضاح، ولعل الهدف الأساسي من وراء التخلص من مكبلي الجبن والبخل يكمن في تخليص الإنسان من داء الخوف الذي يؤدي إلى الجبن، ومن الأثرة والبخل، وحثِّه في الآن نفسه على الإرادة والإقدام وخوض غمار التجربة، وعلى البذل والتضحية.

المُكبِّلان الخامس والسادس: الجبن والبخل..

في إرشاده صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة المهموم المُحبط، الذي يُمثل قطاعًا عريضًا وشريحة كبيرة من المجتمع في هذه الأيام، والذي ظن أن كل الأبواب قد أوصدت في وجهه، وأنه لم يعد هناك بابٌ يلج منه نحو حياة أفضل، أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله - من جملة ما يدعو - بأن يُخلِّصه من الجبن والبخل.. فما طبيعة هاتان الصفتان؟ ولماذا هما من جملة الصفات التي يُستعاذ منها؟ ولماذا قرنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلهما متلازمتين؟

لعلنا يمكن أن نقف على الإجابة حين نعلم أن النفس والمال هما أنفس ما يمتلكه الإنسان في الحياة، بل هما الثمن الحقيقي لسلعة الحياة الدنيوية الكريمة والجنة الأخروية الغالية، فإذا ما ضنَّ الإنسان بالنفس صار جبانًا، وإذا ما ضنَّ بالمال صار بخيلاً، وفي كلتا الحالتين أو في إحداهما لن يستطيع الحصول على السلعة الغالية المعروضة، والتي لا تُشترى إلا بالنفس والمال، يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].

فصفتي الجبن والبخل تمنعان التضحية بالنفس وإنفاق المال، ومن ثم فتبور مثل هذه التجارة الأخروية المعروضة مع الله عز وجل، وتضيع الصفقة المعروضة على الشاري ولا يحصل بذلك على الفوز العظيم.

هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فإن صفتي الجبن والبخل لتقفان كذلك سدًا منيعًا أمام الإنسان، تحولان بينه وبين الطموح والإرادة والإقدام وخوض غمار التجربة، واتخاذ القرارات الجريئة المتحدية والمؤثرة ، ومن ثم تدعانه في مؤخرة الركب وفي أدنى الدركات!

معنى الجبن والبخل:

يهمنا أن نُلقي الضوء على تعريف الجُبْن والبخل لنقف على كنههما ومن ثم إمكانية توصيفهما وتحليل أسبابهما ووضع سبل علاجهما في النفس.

فكلمة (الجبن) مصدر للفعل جبن يجبن، وتعني الضعف والخور وتهيُّب الأشياء، يقول ابن منظور: الجَبانُ من الرِّجالِ الذي يَهاب التقدُّمَ على كلّ شيء، لَيْلاً كان أَو نهارًا، والجمع جُبَناء، وهو ضِدُّ الشَّجاعة والشُّجاع[1]، وعرف الشوكاني الجبن بأنه "المهابة للأشياء والتأخر عن فعلها"[2]، وقال عنه صاحب عون المعبود: "ضد الشجاعة وهو الخوف عند القتال، ومنه عدم الجراءة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[3].

وقال المناوي: "الجبن: الخور عن تعاطي الحرب خوفا على المهجة وإمساك النفس والضن بها عن إتيان واجب الحق"[4].

وعرفه ابن مسكويه بأنه "الخوف مما لا ينبغي أن يُخاف منه"[5].

وقال الجاحظ: "هو الجزع عند المخاوف والإحجام عمّا تحذر عاقبته أو لا تؤمن مغبّته"[6].

وقال الجرجانيّ: "هيئة حاصلة للقوّة الغضبيّة بها يحجم عن مباشرة ما ينبغي وما لا ينبغي"[7].

وكلها إذن معاني تدل على ضعف في القلب، وعدم الإقدام، وترك ما ينبغي وفعل ما لا ينبغي، وتهيُّب الأشياء والتأخر عن فعلها..

أما البخل فهو من بخل يبخل، وهو ضد الكرم، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: يا بني سليم، لقد سألناكم فما أبخلناكم، أي فما وجدناكم بخلاء، وقال عنه الجرجانيّ: هو المنع من مال نفسه، والشّحّ هو بخل الرّجل من مال غيره، وقيل: البخل: ترك الإيثار عند الحاجة[8]، وقال عنه ابن حجر في فتح الباري: "هو منع ما يُطلب مما يُقتنى، وشرُّه ما كان طالبه مستحقًا، ولاسيما إن كان من غير مال المسئول"[9].

وقال صاحب عون المعبود إنه: "ضد الكرم، ويعني ترك أداء الواجبات المالية"[10].

وقال الجاحظ: "البخل هو منع المسترفد (العطاء)، مع القدرة على رفده"[11].

وقال القرطبيّ: "البخل المذموم في الشرع هو الامتناع عن أداء ما أوجب الله تعالى عليه"[12].

وسُئل الحسن رضي الله عنه عن البخل فقال: هو أن يرى الرجل ما أنفقه سرفًا وما أمسكه شرفًا[13].

الجبن والبخل بالمعنى الواسع:

بعد أن تعرفنا على صفي الجبن والبخل ووقفنا على كنههما، فإننا نزيد هاتين الصفتين بيانًا وتوضيحًا وذلك بالتطرق إليهما في بيئة العمل وفي ميادين غير بارزة وغير تقليدية..

فقد يظن البعض أن الجبن يقتصر فقط على تهيب الحروب ومواطن الضرب والقتال وميادين الكر والفر والنزال، وأن الجبناء هم فقط من يفرون من هذه الميادين ويتهيبونها، والحقيقة أن ميادين الجبن أكثر من أن تحصى، والجبناء أكثر من أن يُحصروا في ميدان واحد، ولعل الفارين من ميادين العمل وميادين الكفاح وميادين الطموح وميادين الرفعة والمعالي هم أكثر الناس جبنًا؛ إذ إن هذه الميادين هي أكثر الميادين اختبارًا للنفس، وفيها يبرز الجهاد الحقيقي للنفس الذي هو الجهاد الأكبر، والذي هو أعظم وأشد من جهاد العدو الخارجي.

وعليه فإن قاعدة الجبناء تتسع لتشمل قطاعًا عريضًا من الناس، تتسع لتشمل كل هيَّاب لخطة تطور ذاتي، كل متخوف من مواجهة مصاعب الحياة ومشكلاتها، كل من لا يريد أن يدخل معترك الحياة، كل من يخشي عقد الصفقات ،ومزاولة التجارة ،وعمل مشروعا اقتصاديا حرا خوفًا من الخسارة، كل من لا يبذر الحب حتى يرى الثمرة، كل من لا يجرب إلا إذا كان ضامنًا التجربة، كل من يتهيب مواطن الرفعة والعلو لأنها مرهقة، كل من ينأى عن تقلد المناصب خوفًا من المسئولية، كل من لا يقدر على مواجهة نفسه وتقويم سلوكها، كل من يخشى المستقبل ويخاف المجهول، كل من يسكت عن خطأ أو يتستر على باطل، كل من لا يصدع بالحق في المواقف الحاسمة رغبة أو رهبة، كل من لا يخاف التحدث ضعفًا أو حياءً، كل من لا يذود عن أعراض الناس وهي تنتهك أمامه، الذي يتحدث من وراء الناس وليس أمامهم، الذي يتلون للناس، الذي يكيل المديح للناس ويسعى لرضاهم دون اقتناع ولا رضًا من نفسه، الذي يتملص من أقواله وأفعاله، الذي يرضى بالذل وبالدون، الذي يخاف الفقر ويخشى الفاقة، الذي لا يستطيع الحسم وتحمل نتائج قراراته، الذي لا يثبت في الشدائد والملمات، الذي يخشى الناس ولا يخشى الله أو يخشى الناس كخشية الله...

كل هؤلاء جبناء ليس بإمكانهم أن يقيموا حقًا أو يهدموا باطلاً، ولا أن ينشئوا رفعة أويبنوا مجدًا وتقدمًا، ويؤكد ذلك الشوكانيُّ رحمه الله تعالى حين يقول: "وإنما تعوذ منه صلى الله عليه وسلم لأنه يؤدي إلى عدم الوفاء بفرض الجهاد والصدع بالحق وإنكار المنكر، ويجر إلى الإخلال بِكثير من الواجبات"[14].

هذا بالنسبة للجبن أما البخل فالقاعدة كذلك عريضة، ولا تقتصر فقط على منع المال أو عدم إنفاقه، حيث ميادين البخل كذلك أكثر من أن تحصى، والبخلاء أكثر من أن يجمعهم ميدان منع المال وعدم إنفاقه، وليس أدل على ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يصف فيه البخيل بأنه من تكاسل عن الطاعة، ففي الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي"[15]، قال القاري: "فمن لم يُصلّ عليه (صلى الله عليه وسلم) فقد بخل ومنع نفسه من أن يكتال بالمكيال الأوفى، فلا يكون أحد أبخل منه كما تدل عليه رواية: البخيل كل البخيل"[16].

وعلى هذا فإن المعنى العام والأشمل للبخيل أنه من يحرم نفسه الأجر الكبير والثواب العظيم ويفوت على نفسه الاستفادة من الخيرات التي تعرض له، أو هو من يحرم نفسه الأجر سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا.

وإذا ما طبقنا هذه القاعدة فسنجد كم هو عدد البخلاء، وسنجد كم هم محرومون من تحصيل الأجر الكبير والثواب العظيم في الدنيا والآخرة، وكم هم بعيدون عن السيادة والمراكز المتقدمة والأمامية!

وعلى هذا فإن الجبن والبخل معًا وكل منهما على حده من المثبطات عن الرفعة والمعالي والفوز بالأجر العظيم في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الولد مبخلة مجبنة"[17].

فالولد مبخلة لأنه يحمل أبويه على البخل بالصدقة للمحافظة على المال من أجله، وهو مجبنة لأنه يجبن أباه عن الخروج للجهاد خشية ضيعته.

في تلازم صفتي الجبن والبخل وخطورتهما:

مثل بقية صفات الحديث التي جاءت مثنى مثنى، وكان بين كل منهما تلازم واقتران، فإن ثمة تلازم قوي بين صفتي أو آفتي الجبن والبخل، يبين هذه العلاقة ابن القيم حيث يقول: "الجبن هو تعطيل عن النفع بالبدن، والبخل هو تعطيل عن النفع بالمال، فالبذل المنتظر اليوم من صاحب الرسالة والهمة والمكانة إما بماله وإما ببدنه؛ والبخيل يضن بماله، والجبان يضن ببدنه؛ والصفتان متلازمتان رضعا من ثدي واحد؛ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في يوم حنين: ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جبانًا، وجاء في صفته على لسان أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأشجعهم، في إشارة واضحة إلى تآخي الصفتين؛ ولإشتهار هذه الصلة فقد أشار الشعراء إلى هذا الترابط فتواترت كلماتهم تمزج بين الشجاعة والكرم، ومنها قول الشاعر المتنبي:

وكلٌ يرى طرق الشجاعة ِ والندى * ولكنً طبع النفس ِ للنفس قائدُ

المدير الجبان:

هناك من المديرين من يكون فيه بعض من صفات الجبن أو كثير منها، ولا شك أن ذلك ينعكس بشكل واضح على قراراته وتصرفاته مع الآخرين.

وتكمن أسوأ ألوان الجبن الإداري في المدير الإستراتيجي، حيث إن من أهم صفاته أن يكون لديه استعداد واضح ومؤكد لاتخاذ قرارات إستراتيجية متحدية تُبنى على رؤية وبصيرة مستقبلية تتخطى القيود والمحددات.

ولقد شاهدنا نوعيات من هؤلاء المديرين الجبناء الذين لا يستطيعون تحمل مسئولية اتخاذ قرار، كبيرًا كان أو صغيرًا، وهذه آفة إذا أصيبت بها إدارة أي منظمة فإنها سوف تتأخر أكثر مما تقدم، وسوف تعاني الكثير والكثير في مضمار منافستها الآخرين.

وإن من أهم سمات هذا المدير الجبان التردد والتأخر والهروب من اتخاذ قرارات حقيقية متحدية من شأنها أن تقفز بالمنظمة في مجال التطور والتقدم، وعلى قدر جرأة وشجاعة المدير الإستراتيجي في اتخاذ قرارات جريئة وشجاعة ومتحدية يتوقف سر تطورها وتميزها.

وإذا رجعنا إلى أدبيات الإدارة الإستراتيجية سوف نجد أن هناك بُعدين أساسيين تم اعتمادهما في ذلك، وهما:

-       بُعد الميل للتحدي في اتخاذ القرارات.

-       بُعد التدخل في التفاصيل ودرجة الاستعداد للتفويض والرقابة عند التطبيق.

ومن ثم يكون لدينا أربعة أنماط يصورها الشكل التالي[18]:

كما هو موضح أعلاه
ومن هنا يتضح أنه لا يمكن لأي مدير على الإطلاق أن يتصف بصفة مدير إستراتيجي إلا إذا كان ما بين النمط الأول والثاني، وإن كان النمط الأول هو الأفضل مطلقًا، حيث إن من أكبر الآفات أن يتحول المدير أو القائد الإستراتيجي إلى قائد ضاغط ومتدخل في كل صغيرة وكبيرة لمرؤوسيه، بالإضافة إلى كونه متخذًا لقرارات متحدية وشجاعة.

فمثل هذا المدير (النمط الثاني) سوف يكون - رغم جرأته - عاملاً مفرغًا لكوادر منظمته القيادية مع الوقت، محولها شيئًا فشيئًا إلى درجة عالية من الاعتمادية على شخصه، لتصبح منظمة الفرد الواحد، وهذا وضع في منتهى الخطورة، وينطوي على قدر غير قليل من نوع خطير ومهم من أنواع البخل، ألا وهو بخل نقل الخبرات وبناء الكوادر التالية، وإنفاق الوقت لتعليم الآخرين كيف يعتمدون على أنفسهم في القيام بأداء العمل، و أن نثق فيهم ونفوض لهم المزيد من المهام ونوجههم ونشرف عليهم في أدائها، وندعمهم ونساندهم في الاعتماد على الذات وتعوَُد المبادرة والإيجابية والإنجاز.

إن مثل هذه التصرفات وذلك الفهم لطبيعة الدور الإداري لا يتأتى إلا لمدير جمع بين كل من صفتي الشجاعة والكرم، وتخلص من مكبلي الجبن والبخل، وهو ذلك المدير القابع في المربع رقم (1)، والذي يمثل النمط الإداري الأفضل، ولعل هذا مما يفسر ذلك السر العجيب في اقتران هاتين الصفتين معًا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان ذلك متعلقًا بطبيعة اتخاذ القرارات الإستراتيجية على مستوى الإدارة العليا، فلا شك أن الأمر يحتاج إلى دراسة نفسية هؤلاء المديرين أو المديرات الذين يقضون مدة إدارتهم مشغولين بتوافه الأمور وكل ما هو إجرائي وروتيني، دون أن يتحملوا اتخاذ أي قرار متحدٍّ، وهل تختلف في ذلك بشكل عام المرأة عن الرجل، وأيهما أكثر شجاعة، وأيهما أكثر جبنًا، وهل يختلف الأمر في موضوع البخل، وخاصة في مجال الإنفاق، وكذلك التعليم ونقل الخبرة للآخرين؟

فهذه كلها أسئلة تحتاج إلى دراسات لا أدري هل تعرض لها أحد من قبل أم لا..

المدير البخيل:

هذا عن بعض ما يتعلق بالمدير الجبان كعنوان أساسي، فما بالنا بالمدير البخيل؟  وهل يمكن النظر إلى المديرين من زاوية البخل والكرم؟ وأي النمطين أفضل، الأكثر ميلاً للبخل أم للكرم؟

لا شك أن البخل - كما اتضح في تعريفه - صفة بغيضة في النفس البشرية يبغضها الله والناس، وهذه الصفة توجد في كل شيء، وليس فقط في المال والإنفاق كما هو شائع، وأشد أنواع البخل الإداري ما نراه شائعًا في توريث الخبرات، وبذل ما لدى المدير من خبرة بسعة صدر وصبر لنقلها وتعليمها للآخرين.

فالمدير الكريم حقًا هو ذلك الذي تزداد سعادته كلما نجح في إيجاد كوادر وصفوف إدارية تالية يمكنها تسيير العمل في غيبته بدرجة تفوق ما كان يؤديه هو، وأشد المديرين بخلاً هو من يبخل بما لديه من علم وخبرة على الآخرين، ويشح بها ويعتبرها من الأسرار المكنونة التي لا يجب أن يطلع عليها أحد، وربما يرى أنه كلما كان من حوله ومن بعده جهلاء قليلي الخبرة والفهم والقدرة على القيام بما يؤدَّى، فإن ذلك معناه زيادة في أهميته، وهذا يعتبر - رغم شيوعه - خطأ قاتلاً.

أما عن البخل الإداري في مجال الإنفاق، فإنه بلا شك مذموم، شديد الذم عند الله وعند الناس، ولكن ما هو الحد الذي لا يكون المدير في إنفاقه بخيلاً ولا مسرفًا، حيث البخل والإنفاق مذمومان شرعًا وعرفاً؟

والحقيقة أن من أعظم الضوابط التي أكد عليها القرآن واعتبرها من صفات عباد الرحمن في ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].

فنحن هنا إذن عند مصطلح مهم يجب أن نتأمله في الإنفاق عمومًا والإداري خصوصًا، وهو (القوام).

ولعل ذلك يقودنا إلى سؤال مهم، وهو كيف يمكن للمسلم كمدير، وخاصة في المستويات الإدارية العليا التي يتوقف مستقبل أي منظمة على سلوكه في اتخاذ قرارات الإنفاق، سواء في بداية إنشائها أو أثناء عملية التشغيل المستمر لها، أن يلتزم بهذا الحد (القوام) دون زيادة أو نقصان؟

لا شك أن ذلك لن يتحقق إلا في حالة واحدة فقط دون سواها، ألا وهي: أن أي قرار إنفاق لا بد وأن يقوم على دراسة علمية دقيقة للاحتياجات الحقيقية بشكل شامل ومتكامل، والتي قد تسمى في بداية أي مشروع بدراسة الجدوى، وهذه الدراسة - إن صحت - فإنها تقدر الاحتياجات الدقيقة لضمان سير المشروع منذ البداية بالحد اللازم لجعله متميزًا ومنافسًا مع الوقت.

وقد رأينا كثيرًا من المشروعات التي عانت في بداية حياتها، وربما أدت هذه المعاناة إلى انهيارها تماما، لأن قرارات تحديد احتياجاتها المالية كانت أقل بكثير مما هو مطلوب لضمان حد القوام، وكذلك لا يخفى علينا أن التقدير المبالغ فيه سوف يؤدي إلى تحميل المشروع ما لا يُحتمل من موارد زائدة تقلل من فرص ربحيته.

ومن ثم يجب على المدير في أي موقع، بل على أي فرد مسلم أن يكون أحد عاداته السلوكية المتأصلة في النفس التزام حد القوام والاعتدال في الإنفاق والبعد عن طرفي الإسراف والتقتير، ولعل القرآن الكريم قد صور ذلك في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29].

وإن كانت الصفة السلبية الغالبة المشاهدة في عالم الناس، وخاصة الإدارة هي صفة البخل، فكثيرًا ما نرى المدير البخيل أكثر مما نرى المدير الكريم، رغم أن الكريم - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - "قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله عز وجل من عالم بخيل"[19].

ولهذه الصفة مظاهر ملموسة، وهي من قبيل:

-       انعدام أو التأخر في صرف المكافآت والحوافز المادية.

-       عدم تقييم أداء المرؤوسين.

-       انعدام أو قلة الثناء والمدح على أداء المرؤوسين، ولو بالكلمة الطيبة.

-       التجهم وعدم التبسم مع المرؤوسين.

-   حرمان الموظفين من بعض المشروبات أو الأطعمة البشيطة التي تضفي على جو العمل نوعا من البهجة والاحتمال .

-       التقتير الشديد في صرف بعض النثريات أو الأدوات المكتبية.

-       التقصير في تهيئة وتحسين بيئة العمل الداخلية بما يشق على نفسه ومن معه.

إن الإدارة يجب أن تتوقف كثيرًا عند هذين المحددين أو المكبلين للشخصية (الجبن والبخل)، بحيث نعمل على حسن تدريب ليس فقط المديرين، بل النشأ على تفاديهما، ونتأكد عند اختيار أي قائد، وخاصة الإستراتيجي، من خلوه تمامًا من أيهما؛ لأن التكلفة التي تتحملها أي منظمة من وجود أي من هاتين الصفتين غالبًا ما تكون باهظة، وأحيانًا غير منظورة في المدى القصير.

والله نسأل أن يبصرنا بالحق ويهدينا إلى سواء السبيل،،

أ.د. محمد المحمدي الماضي

أستاذ إدارة الاستراتيجية

كلية التجارة جامعة القاهرة

www.almohamady.com



[1] لسان العرب - (ج 13 / ص 84).

[2] الشوكاني: تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين 1/ 179.

[3] عون المعبود - (ج 3 / ص 476)

[4] فيض القدير - (ج 2 / ص 154).

[5] تهذيب الأخلاق - (ج 1 / ص 9).

[6] الجاحظ: تهذيب الأخلاق، ص 33.

[7] الجرجاني: التعريفات، ص 73.

[8] الجرجاني: التعريفات (42، 43) .

[9] ابن حجر: فتح الباري 10/ 457.

[10] عون المعبود (ج 3 / ص 463).

[11] الجاحظ: تهذيب الأخلاق، ص 33.

[12] تفسير القرطبي (ج 5 / ص 193).

[13] محاضرات الأدباء - (ج 1 / ص 272).

[14] انظر: عون المعبود (ج 3 / ص 462).

[15] الترمذي: كتاب الدعوات (3469).

[16] تحفة الأحوذي - (ج 8 / ص 443).

[17] مسند أحمد (16904)، وابن ماجه (3656).

[18] للمزيد من التفصيل راجع: فصل "العلاقة بين أنماط القيادة الإستراتيجية والأداء التنظيمي" في: محمد المحمدي الماضي: دراسات في الإدارة، القاهرة، دار الثقافة العربية، 2008م.

[19] رواه الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في السخاء.

 

   
عدد التعليقات 5

1
الجبن جزء من البخل
كتب :بهاء عبدالظاهر
بتاريخ: الخميس 08 يناير 2015 الساعة 01:01 صباحاً
ارى والله اعلم ان الجبن يعد جزء من البخل فالجبان يبخل بجسده او روحه و يضن بهما على الاقدام فلا يقدم على امور الشجعان حتى لا يصاب جسد\\\\ه بمكروه او يهلك وحه وهذا ماهو الا بخل
2
القائد الاستراتيجى
كتب :h1ibrahim
بتاريخ: الاثنين 05 يناير 2015 الساعة 09:47 صباحاً
اولا الشكر والتقدير على عمق الفهم والتحليل وربط الصفتين ببعضهماثانيا ان اشد ما تصاب به مؤسساتنا هو الجبن وما يتفرع عن ذلك فمثلا يوجد المدير التنفيذى ومن تحته مدير المبيعات والجميع يطالب باتخاذ قرار استراتيجى لتغيير السياسة او اتخاذ قرار جرئ بسبب ضعف البيع وعدم القدرة على الوفاء بمتطلبات واهداف المؤسسة فلا توج الاستطاعة لدية ليبيع المنتج الذى تنتجه المنظمة فالذى يتم بيعه دون الطاقة القصوى بكثير رغم جودة المنتجات واتساع الاسواق كما يصر ان يعمل بمفرده ويفشل كل مندوب يلتحق بالقسم ليصر ان يعمل بمفرده ... ومع ما سبق يحجم المدير التنفيذى على اتخاذ اجراء او قرار استراتيجى بشان ذلك والسبب الخوف من ان يشى مدير المبيعات الذى هو على صلة قرابة بالمالك بعيوب المدير التنفيذى وكانه اتفاق ضمنى غير مكتوب بين الطرفين على حساب المنظمة .. فما كانت النتيجة هى خسائر سنوية وعدم وصول المنظمة الى نقطة التعادل رغم الفرص الكبيرة بالسوق والامكانيات التى تمتلكها والتى لواديرت بالشكل السليم لاحتاجت الى المؤسسة الى 5 اضعافها لتغطى احتياجات ما حولها ... والسبب هو الجبن والخوف ...وهناك مظاهلر اخرى لايتسع المجال لذكرها من اثر هذه الافة الخطيرة خصوصا عند تقديم الراى والمشورة ممن هم قريبى الصلة بمتخذ القرار كانوا مكاتب او استشاريين تستقدمهم الشركات وتدفع لهم مبالغ طائلة او من الداخل فى الادارات العليا ممن ينبع قراراهم بناءا على تحقيق المصالح الشخصية لذواتهم او كياناتهم الخاصة وذلك على حساب المنفعة الاولى للمنظمة...نشكرك على هذا التحليل
3
القائد الاستراتيجى
كتب :h.ibrahim
بتاريخ: الاثنين 05 يناير 2015 الساعة 09:47 صباحاً
اولا الشكر والتقدير على عمق الفهم والتحليل وربط الصفتين ببعضهماثانيا ان اشد ما تصاب به مؤسساتنا هو الجبن وما يتفرع عن ذلك فمثلا يوجد المدير التنفيذى ومن تحته مدير المبيعات والجميع يطالب باتخاذ قرار استراتيجى لتغيير السياسة او اتخاذ قرار جرئ بسبب ضعف البيع وعدم القدرة على الوفاء بمتطلبات واهداف المؤسسة فلا توج الاستطاعة لدية ليبيع المنتج الذى تنتجه المنظمة فالذى يتم بيعه دون الطاقة القصوى بكثير رغم جودة المنتجات واتساع الاسواق كما يصر ان يعمل بمفرده ويفشل كل مندوب يلتحق بالقسم ليصر ان يعمل بمفرده ... ومع ما سبق يحجم المدير التنفيذى على اتخاذ اجراء او قرار استراتيجى بشان ذلك والسبب الخوف من ان يشى مدير المبيعات الذى هو على صلة قرابة بالمالك بعيوب المدير التنفيذى وكانه اتفاق ضمنى غير مكتوب بين الطرفين على حساب المنظمة .. فما كانت النتيجة هى خسائر سنوية وعدم وصول المنظمة الى نقطة التعادل رغم الفرص الكبيرة بالسوق والامكانيات التى تمتلكها والتى لواديرت بالشكل السليم لاحتاجت الى المؤسسة الى 5 اضعافها لتغطى احتياجات ما حولها ... والسبب هو الجبن والخوف ...وهناك مظاهلر اخرى لايتسع المجال لذكرها من اثر هذه الافة الخطيرة خصوصا عند تقديم الراى والمشورة ممن هم قريبى الصلة بمتخذ القرار كانوا مكاتب او استشاريين تستقدمهم الشركات وتدفع لهم مبالغ طائلة او من الداخل فى الادارات العليا ممن ينبع قراراهم بناءا على تحقيق المصالح الشخصية لذواتهم او كياناتهم الخاصة وذلك على حساب المنفعة الاولى للمنظمة...نشكرك على هذا التحليل
4
القائد الاستراتيجى
كتب :h.ibrahim
بتاريخ: الاثنين 05 يناير 2015 الساعة 09:47 صباحاً
اولا الشكر والتقدير على عمق الفهم والتحليل وربط الصفتين ببعضهماثانيا ان اشد ما تصاب به مؤسساتنا هو الجبن وما يتفرع عن ذلك فمثلا يوجد المدير التنفيذى ومن تحته مدير المبيعات والجميع يطالب باتخاذ قرار استراتيجى لتغيير السياسة او اتخاذ قرار جرئ بسبب ضعف البيع وعدم القدرة على الوفاء بمتطلبات واهداف المؤسسة فلا توج الاستطاعة لدية ليبيع المنتج الذى تنتجه المنظمة فالذى يتم بيعه دون الطاقة القصوى بكثير رغم جودة المنتجات واتساع الاسواق كما يصر ان يعمل بمفرده ويفشل كل مندوب يلتحق بالقسم ليصر ان يعمل بمفرده ... ومع ما سبق يحجم المدير التنفيذى على اتخاذ اجراء او قرار استراتيجى بشان ذلك والسبب الخوف من ان يشى مدير المبيعات الذى هو على صلة قرابة بالمالك بعيوب المدير التنفيذى وكانه اتفاق ضمنى غير مكتوب بين الطرفين على حساب المنظمة .. فما كانت النتيجة هى خسائر سنوية وعدم وصول المنظمة الى نقطة التعادل رغم الفرص الكبيرة بالسوق والامكانيات التى تمتلكها والتى لواديرت بالشكل السليم لاحتاجت الى المؤسسة الى 5 اضعافها لتغطى احتياجات ما حولها ... والسبب هو الجبن والخوف ...وهناك مظاهلر اخرى لايتسع المجال لذكرها من اثر هذه الافة الخطيرة خصوصا عند تقديم الراى والمشورة ممن هم قريبى الصلة بمتخذ القرار كانوا مكاتب او استشاريين تستقدمهم الشركات وتدفع لهم مبالغ طائلة او من الداخل فى الادارات العليا ممن ينبع قراراهم بناءا على تحقيق المصالح الشخصية لذواتهم او كياناتهم الخاصة وذلك على حساب المنفعة الاولى للمنظمة...نشكرك على هذا التحليل
5
توجيهات نبوية عظيمة لبناء الفعالية الشخصية وإدارة الذات
كتب :Nagwa Afifi
بتاريخ: الأحد 04 يناير 2015 الساعة 03:54 مساءً
هذه المقالة فى رأى المتواضع تربية وتعليم للنفس البشرية للتقدم صوب المستقبل، ولتشكيل عقل الانسان وتحويله وتدريبه على التفكير والتحليل والإستنتاج للوصول للشخصية السوية، فللمقالة أهداف لكل من المعلم والمدير والقائد ورب الأسرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :\\\" كل راع وكل مسئول عن رعيته\\\". والأهداف هى: 1-أهمية القيم المستمدة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة والعمل بها. 2- تعديل السلوك وتخلص الناس من الجبن والبخل للتقدم فى كل نواحى الحياة. 3-المنهجية فى التفكير للتخطيط والعمل بجد وإجتهاد. 4- التعود على ثقافةالعطاء. 5-ثقافة صنع القرار بحيث يكون أولا وأخيرا للمصلحة العامة. أعتقد إن هذه المقالة سوف تغير كثيرا من نظرتى الآن للحياة وللعلم وللجامعة وخاصة أننى بصدق غير مهتمه وأقول أن الله عز وجل أنعم علي بكل شىء، وعملت كثيرا ونجحت كثيرا،وتعذبت كثيرا، والأن وأنا فى هذا السن يجب أن أرتاح، وخصوصا أننى لست فى صحة جيدة،والجامعة بعيدة عن بيتى وأنا بمفردى أرجع ليلا من الجامعة المنطقة جديدةوالعمران فيها قليل ، لكن هذه المقالة أيقذتنى. شكرا أستاذنا الفاضل ربنا يكرمك ويضع كل توجيهاتك المفيدة فى ميزان حسناتك.
أضف تعليق
الاسم
البريد
عنوان التعليق
التعليق
أدخل حاصل جمع