حكمة اليوم

قرأنا لك

الخطوات الثمانية لتصميم برامج تدريبية فعالة - عبد الرحمن محمد المحمدي... المزيد

قائمة المراسلة
الاسم
البريد
الجوال

مشاهدة : 2236

أثر الإسلام كثقافة على تقدم أو تأخر الإدارة قراءة في وثيقة لعالمين أمريكيين

وقفنا في المقالة السابقة مباشرة عند النص الحرفي للفصل الذي كتبه كل من (Luther Gulick & James K. Pollock) دون تعليق أو تدخل, وكما وعدت فإننا نبدأ اليوم في تناول هذا النص بالتعليق والتحليل، وإذا كان ما ذكره هذان العالمان - رغم عدم انتمائهم لثقافتنا الإسلامية - يعتبر أمرًا رائعًا، خاصة أنه يقوم على أعلى درجات الحيادية والموضوعية, فإننا - كمسلمين ومتخصصين في الإدارة - لا يمكن أن يقتصر دورنا على مثل هذه التعليقات، وإنما يجب أن ينطلق دورنا الفعال من خلال تقديم جهد حقيقي لاستخراج ما في أعماق شريعتنا الغراء وديننا العظيم من لآليء، يمكن أن تمثل أساسًا حقيقيًا لنهضتنا الإدارية, ليس فقط على المستوى النظري، لكن أيضًا على مستوى حل مشكلاتنا العملية, بل وتحقيق أساسًا لنهضة حقيقية لكل فرد وكل مؤسسة وكل دولة, وسائر الأمة.

1- حول المقدمة:

1/1 أثر الثقافة بما فيها الدين على النظم الإدارية:

إن أول ما نلحظه في مقدمة الفصل الأول في تقرير العالمين "جوليك و بولوك"، والذي يعتبر هو ذاته بمثابة مقدمة عامة للتقرير, هو إدراكهما لحقيقة مهمة قرراها بوضوح، وهي أهمية تأثير الثقافة السائدة في أي نظام أو إدارة, و أن من أكبر الأخطاء الشائعة التي يقع فيها كثير من المعنيين بالتغيير والتطوير هو تجاهل أثر الثقافة التنظيمية السائدة، ومن ثم يكون مآلها الفشل رغم ما قد يُبذل فيها من جهدٍ مادي واضح وملموس.

ولكن تلك الحقيقة البسيطة والواضحة تمام الوضوح, تغيب عن ذهن الكثير من علمائنا ومثقفينا، سواء في الجوانب الإدارية أو الثقافية عمومًا، بل إننا نجد من ينكر بقوة أي أثر لمثل هذه الجوانب الثقافية غير الملموسة على تقدم أو تأخر النظم الإدارية والحضارية, بل نجد من يسخر من مثل هذه القوى الثقافية، باعتبارها قوى غيبية خرافية (من وجهة نظره) لا يمكن أن يكون لها تأثير من قريب أو من بعيد.

بل لعل من المسلمات لدى الكثيرين أن أوروبا أو الغرب عمومًا لم يحرز نهضته الحديثة وتقدمه الحضاري الملموس إلا بعد أن تحرر من الكنيسة وتمرد عليها.

وإن صح ذلك في الغرب, فهل ينطبق بنفس الدرجة على الحضارة الإسلامية؟

الحقيقة المؤسفة أن بعض المسلمين وقع في هذا الخطأ ورددوا أنه لا تقدم لنا إلا بالسير على نفس المنهج الذي سار عليه الغرب، ورأينا من ألَّف في بداية القرن العشرين كتبًا يحاوَل فيها أن يُثبَت أن الإسلام بعيد كل البعد عن سياسة الحياة بما فيها الحكم, بل ومن أعاجيب ذلك أن من بدأ سلوك هذا الطريق عالم أزهري يُدعى الشيخ علي عبد الرازق، والذي ألف كتابًا شهيرًا سماه (الإسلام وأصول الحكم)، وهو نفس العنوان الذي أثبته هذان العالمان في منتصف القرن تقريبًا "Islam and government" حاول هو في هذا الكتاب جاهدًا أن يثبت أن الإسلام كدين وثقافة لا شأن له بالخلافة ولا تأثير له فيها.

وخرج بعد ذلك كثيرون رددوا المقولة نفسها بمعانٍ مختلفة، وأشهرها ذلك الشعار الذي انتشر في السبعينات من القرن العشرين عندنا في مصر: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، فماذا يقول هذان العالمان اللذان ينتميان للحضارة الغربية وللديانة المسيحية في بداية تقريرهم؟

إنهما يقولان: "إننا ندرك حق الإدراك أن النظم الحكومية تتكيف وفق مقتضيات الجو الثقافي الذي توجد فيه، ولا يمكن بحث خطط إعادة تنظيم جهاز أية حكومة أو إجراءاتها بمعزل عن تعرف التيارات العامة التي تسود حياة الأمة والمعتقدات الأساسية التي تدين بها".

أي أن ذلك يحدد ما للمعتقدات والثقافة من تأثير على النظم الحكومية من وجهة نظرهم، بشكل عام وواضح لا غموض فيه.

2.1 أثر الحكومة ذاتها:

ثم إن العالمين الأمريكيين يقرران أن هناك أيضًا الحكومة التي تحكم، وما لها من تأثير واضح في أي عملية تغيير, ولعل ذلك يذكرنا بالقول المأثور: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ولعل ذلك يتضح في نصهما الحرفي: "غير أن الحكومة أيضًا تعتبر من القوى الإيجابية في التغيير والتطوير، وآية ذلك واضحة فيما تم خلال العشرة أعوام التي انقضت على قيام الثورة المصرية".. ومن هنا يتضح ما يجب أن تقوم به أي حكومة من جهود إيجابية حقيقية لتحقيق التغيير والتطوير المنشود.

ولعل ما سبق أن ذكرناه في سنة التغيير من دور مستقل للإنسان كصانع للتغيير في قوله: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11) يدعم ذلك التوجه ويوضحه تمامًا من المذهبية الإسلامية.

إذن فلا بد من التوازن بين قوة دفع الحكومة التي تدير، وقوة الثقافة بجناحيها سلبًا وإيجابًا, وهل هي علاقة توازن وتكامل أم علاقة صراع وتنافر؟!

3.1 العلاقة بين تأثير الثقافة والنظم:

يتضح مما سبق أن العالمين الأمريكيين يؤكدان على حقيقة مهمة وهي: "لهذا كان على من يتأمل في المستقبل، ويقترح إدخال تغييرات مهمة، أن يعني حق العناية بدراسة قوتين كبيرتين:

أولهما: التأثير القوي للثقافة، الذي يميل إلى الإبقاء على التقاليد الموروثة.

الثانية: القيمة الخلاقة المبدعة للجديد من الأفكار والنظم، التي قد تغير وضع شعب من الشعوب؛ بأن تدفعه إلى حياة جديدة ذات قيم ومعتقدات جديدة".

فهما بعد ذكرهما ذلك بوضوح يقرران حقيقة مطلقة في كثير من المنظمات والدول, وهي ذلك الصراع الذي يواجه أي عملية تطوير بين الثقافة وقيم المنظمة الموروثة، التي تميل - كما قالا - إلى الإبقاء على التقاليد الموروثة, "والقيمة الخلاقة والمبدعة للجديد من الأفكار والنظم".

وهنا يبرز تساؤل مهم, فحواه:

هل تلك الثقافة السائدة, وما فيها من تقاليد موروثة، تتجه في نفس توجه الابتكار والإبداع والتطوير؟ أم أنها تمثل معوقًا حقيقيًا يشده إلى الوراء, و يقف حجر عثرة في طريقه؟

خاصة وأنهما يقرران بوضوح خطورة ذلك بقولهما: "ومن المهم أن نعترف منذ البداية بأن أمر جهاز الحكم ليس بأهم الأمور، فالمعتقدات والقيم التي يتركز عليها تفوقه أهمية وخطورة"!

فلماذا هما يؤكدان بشده على موضوع المعتقدات والقيم ويجعلاها ترجح كافة جهاز الحكم نفسه في عملية التطوير؟

في الحقيقة فإن هذا الأمر قد يبدو للكثيرين غريبًا ومدهشًا.. وربما بدا للبعض صادمًا.. خاصة من يتجاهل تمامًا أثر الدين والعقيدة على الحكم.

وهنا أحب أن أقرر بأن العالمين الأمريكيين حتى هذه اللحظة يقرران حقائق عامة ومجردة، سواء كان هذا الدين إسلامي أو مسيحي أو غير ذلك، وسواء كان هذا التأثير سلبيًا أم ايجابيًا، خاصة وأن ما حدث من تطور الحضارة الغربية يؤكد بوضوح على أثر الجانب السلبي للثقافة على ما ساد في أوروبا من ظلام في القرون الوسطى؛ وذلك للإقحام الخاطئ للدين في مسيرة العلم والنهضة, وليس للدين ذاته, وهذه حقيقة يجب أن ينتبه لها الكثيرون, فهناك في كل زمان ومكان, من يشوه الدين ويسيء استغلاله متاجرًا به وليس متاجرًا له، فيتحول إلى سبة، كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في أحد كتبه تلك المقولة التي لا زلت أحفظها: "إن التدين الفاسد سبة متنقلة في وجه الدين"!

ولذلك ليست العبرة بالتشدق بمبادئ وقيم الدين, ولكن العبرة بأن نستند إلى حقائق الدين أولاً ولا نزيفها, وأن نلتزم بتلك الحقائق الربانية التي تتصل بالله وليس بأهواء البشر, أو إرادتهم, أو مصالحهم, وأن نفعلها ونحولها إلى واقع ملموس ونظم تحكم, ولعل من أعظم ما قالاه حقًا - من وجهة نظري - هي تلك العبارة العبقرية:

"فإذا استطاع الجهاز الجديد أن يبتعث هذه المعتقدات والقيم، وأن يصوغها ويشكلها في صورة نظم، فإن التقدم الذي يحرزه الشعب حقًا لا يكمن في النظم الحكومية، بل فيما تقوم عليه من قوى أخلاقية وفلسفية وروحية"!

فهذه أعظم نصيحة على الإطلاق لأي إدارة أو حكومة, بأن تعمل على تحويل ما في الثقافة والمعتقدات والقيم إلى نظم حاكمة، خاصة إذا كان فيها الخير والنفع؛ لأنها حينئذ ستكون متسقة ومتوافقة مع ما يؤمن به الناس أنفسهم, أي أن التغيير يكون - كما يقولون الآن - من الداخل إلى الخارج, فلا يكون هناك استغراب ولا مرادفات أو مصطلحات غريبة أو دخيلة على تلك الثقافة والمعتقدات والقيم, ولا متصارعة أو متعارضة معها، كما حاول البعض بعد ذلك استيراد توجهات وقيم وأيديولوجيات غريبة عجيبة من الشرق  أو من الغرب بشكل عشوائي أعمى تتسم بالتبعية المطلقة والانبهار بالآخر, وفقدان الثقة بالنفس.. فماذا جنينا من وراء ذلك على مدى عدة عقود؟؟

لعل ذلك الذي يؤكدون عليه يذكرنا أيضا بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف: 2، 3).

فالعبرة عند الله ليست بمجرد القول, لكن بتحويله إلى فعل ونظام "صفًا"، وليست مجرد أي صف ولكنه منظم وقوي ومتماسك "كأنهم بنيان مرصوص".

وبعد تلك التمهيدات يخلصان إلى نتيجة مهمة جدًا تمثل مبدأ عامًا ومنهجا قويمًا لكل من يتصدي لأي عمل إداري أو تطويري على الإطلاق، حيث يقولان:

"لهذا كان على المسئولين عن إعادة تنظيم الجهاز الحكومي على نحو جذري أن يستهدوا بهدي ثقافة الأمة ذاتها، وفهم المعتقدات والقيم التي تسير عليها الأمة في حياتها".

ويا ليت تلك النصيحة قد فهمت وعمل بها، سواء في وقتها أو حتى  في وقتنا هذا..! فإنها لو سمعت ووعيت وعمل بها لكان حالنا غير الحال!! لكن حتى هذه اللحظة لا يزال الكلام عامًا ينطبق على أي ثقافة وأي عقيدة ودين..

فما علاقة الإسلام كثقافة وعقيدة أو دين بالحكم؟

وهل قاما بعد ذلك بمحاولة فهمه وتحليل ما به من قيم لمعرفة مدى ما تمثله في عملية التطوير التي هم بصددها؟

وهل من المهم أن يبدآن بذلك؟

وهل قاما بالفعل بذلك؟ وماذا كانت النتيجة؟

في الحقيقة إنهما يردان الأمور إلى أصولها، ويوضحان - بموضوعية العلماء - أهمية أن يتم فهم ثقافة المجتمع المصري التي أساسها الإسلام، رغم أنهما غير مسلمين, وفي وقت قصير، حيث يقرران بوضوح ذلك بقولهما: "وكان من المتعذر علينا أن نفهم تلك المعتقدات والقيم؛ لأننا ننتمي إلى ثقافة أخرى؛ لهذا بذلنا جهدًا متصلاً للتعرف عليها، لا عن طريق القراءة فحسب، بل كذلك عن طريق الاجتماع بالقادة في ميادين الدين والأخلاق والفلسفة؛ لكي نتبين تيارات الثقافة المصرية التي يبدو أن لها تأثيرًا أساسيًا في المشكلات التي نبحثها".

ونلاحظ هنا قولهما: "ويبدو أن لها تأثيرًا أساسيًا في المشكلات التي نبحثها"، وكأنهما هنا يفترضان أن من أسباب ما يحدث في المجتمع من مشكلات هو الدين الإسلامي ذاته الذي يمثل ثقافة هذه الأمة, وما قد ينطوي عليه من قيم ومبادئ قد تكون سلبية أو متناقضة مع ما يمكن أن يحدث من تطوير وتجديد، وأرى أنهما متأثرين - حتى هذه اللحظة - بالثقافة الغربية التي استقرت على أن التقدم والنهضة الغربية لم تحدث إلا بالتمرد على الكنيسة وإزاحتها عن التدخل في إدارة شئون الناس منذ ما سمي بعصر النهضة، ولعلهما معذورين في ذلك.

لكن ما الذي توصلا إليه بعد تلك الجولة القصيرة التي لم تتعد الأسبوعين في معرفة بعض كوامن هذه الثقافة في ما يمثلها، و هو الدين الإسلامي وقيمه؟

سوف أترك لك تعبيرهما كما جاء:

"وقد راعنا خلال البحث أن اهتدينا إلى عدد من المعتقدات الأساسية الوثيقة الصلة بتلك المشكلات، وإننا لنورد تلك المعتقدات فيما يلي في صورة بالغة الإيجاز، خالية مما تستحقه من إفاضة وتفصيل"..

فهما قد فوجئا بما وجداه بالفعل من معتقدات أساسية وثيقة الصلة بتلك المشكلات؛ أي أنهما يقرران بأن ما اهتديا إليه يعتبر بحق وثيق الصلة بتلك المشكلات، سواء في علاجها وحلها أو في وجودها وتفاقمها, ومن ثم فهما يوردان تلك المعتقدات والمبادئ بصورة موجزة، بل بالغة الإيجاز خالية مما تستحقه من إفاضة وتفصيل..

بقي أن نعرف بعد ذلك هل ما سوف يورداه يعتبر حقًا حلاً وعونًا وطاقة إيجابية مساعدة للتغيير  التطوير أم لا؟ هذا ما يحتاج منا إلى وقفة مستفيضة معًا في مقال قادم بإذن الله.

أ.د. محمد المحمدي الماضي

أستاذ إدارة الإستراتيجية

كلية التجارة - جامعة القاهرة

   
أضف تعليق
الاسم
البريد
عنوان التعليق
التعليق
أدخل حاصل جمع